أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينكم، وأخلصوا له أعمالكم، وأسلموا له وجوهكم، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان: 22].
أيها الناس، حين اختار الله تعالى نبيه محمدًا خاتمًا لرسله وأنزل عليه الكتاب وقضى بأن يبقى دينه إلى آخر الزمان فإنه سبحانه ما جعل الإسلام لجنس دون جنس، ولا اختص برسوله أمة دون أخرى، بل كانت بعثته رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158].
إنه نبي هذه الأمة جمعاء، لم يستأثر به أهل مكة وحدهم، ولا اقتصرت هدايته على العرب دون غيرهم، ولا فرح به أهل الجزيرة على من سواهم، بل كان للبعيدين فيه أوفر الحظّ بإيمانهم وإخلاصهم؛ كبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي ومارية القبطية، فكانوا من أوليائه وإن تباعدت بهم ديارهم واختلفت أعراقهم. ولم يحظ بهذا الشرف من كفر به من سادة العرب وقادة قريش كأبي جهل وأبي لهب وأمية بن خلف. فما أعظم هذا الدين حين جمع قلوب أتباعه عليه! فذابت الأعراق والأجناس والألسن والألوان في ذات الله تعالى وابتغاء مرضاته.
إنها أمة واحدة، ربها جل جلاله واحد، ونبيها واحد، ودينها واحد. دين يجسد الوحدة بين المسلمين عن طريق وحدة العبادات والشعائر؛ لتحقيق وحدة القلوب والمشاعر؛ انطلاقًا من قول الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92].
ولأجل ذلك أمرنا الله عز وجل بالاجتماع والمحبة، ونهانا عن التفرق والبغضاء: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]. وعزز النبي هذه الأخوة وقواها حين جعل المسلمين كلهم جسدًا واحدًا فقال: ((الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إن اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ)) رواه مسلم، وفي حديث آخر قال : ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ من أَهْلِ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لأَهْلِ الإِيمَانِ كما يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا في الرَّأْسِ)) رواه أحمد.
وأوجب على المسلم نصرة أخيه المسلم وعدم خذلانه أو إسلامه لأعدائه؛ وذلك بنجدته إن كان مظلومًا، وردعه عن ظلمه إن كان ظالمًا، فقال : ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ)) رواه الشيخان، وقال : ((وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ ولا يَحْقِرُه)) رواه مسلم، وفي حديث ثالث قال : ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أو مَظْلُومًا)) رواه الشيخان.
وهذه الوحدة العظيمة التي كرستها نصوص الكتاب والسنة جعلت أمة الإسلام عظيمة القدر كبيرة الشأن مهابة الجانب، لا يوطأ كنفها، ولا يهان عرضها، ولا سبيل إلى كسرها، ولا مطمع لعدو فيها؛ لأن الاعتداء على مسلم واحد أينما كان يحرك الأمة بأجمعها، ويبعث جيوشًا جرارة لإغاثته.
وإجلاءُ بني قينقاع عن المدينة كان بسبب إهانة اليهود لامرأة مسلمة، فَعُدَّ ذلك نقضًا للعهد أوجب جلاءهم عن ديارهم، ولما استغاثت امرأة بالمعتصم سيَّر لها جيشًا كثيفًا يفك أسرها، ويحفظ عرضها، ويعيد لها كرامتها.
لقد كان هذا هو حال المسلمين قبل أن يتمكن الأعداء منهم فيمزقوا وحدتهم، ويفتتوا دولتهم، ويفرقوهم إلى شيع متناحرة وأحزاب متباغضة، يعتز كل قوم منهم بعرقهم أكثر من اعتزازهم بدينهم، ويفاخرون بأصلهم ومذهبهم أعظم من مفاخرتهم بإسلامهم، تلك المفاخرة التي أُمروا بها في قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصِّلت: 33]، وحولها النبي وأصحابه رضي الله عنهم إلى واقع عملي حين أسرعت كل طائفة منهم تريد ضم سلمان الفارسي رضي الله عنه إليها فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله : ((سلمان منا أهل البيت)) رواه الحاكم.
لقد استطاع الأعداء النفاذ إلى عمق المسلمين، وتأليب بعضهم على بعض، والاستفراد بهم دولة دولة وطائفة طائفة، مع منع البقية من إغاثة إخوانهم إلا بإذن الأعداء، فضلاً عن نجدتهم ونصرتهم ورفع الظلم عنهم، ولا عجب حينئذ أن يُحاصر المسلمون في غزة لتقتل أمة مسلمة صبرًا، ولا عجب أن يعتدي الوثنيون في الصين على مسلمي تركستان الشرقية، فيقتلوهم ويسحلوهم في الشوارع، وينقل ذلك إلى العالم ولا يحرك في الناس ساكنًا.
إن الإسلام في بلاد التركستان قديم جدًا؛ إذ فتحها المسلمون في العهد الأموي على رأس المائة الهجرية الأولى، وظلت مسلمة أكثر من ألف سنة، وكان لها تاريخ مجيد مع المسلمين؛ إذ إن السلاجقة السنة الذين أبلوا بلاء حسنًا في مكافحة الصليبيين وكسر عملائهم من بني عبيد الباطنيين كانوا ينحدرون من سلالات تركستان، ومن نسلهم ظهر بنو عثمان الذين أسسوا أقوى دولة وأطولها حكمًا في الإسلام.
وظلت تركستان مسلمة حتى غزا الروس جانبها الغربي فاحتلوه، وغزا الصينيون جانبها الشرقي في أواسط القرن الثاني عشر الهجري فيما سمي بالعهد المانشوري، وتتابعت عليها الدول حتى تولى الشيوعيون زمام الأمر في الصين قبل ستين سنة، فساموا المسلمين سوء العذاب، وقهروهم على مبادئهم الإلحادية، وألغوا الكتابة بالعربية، وأتلفوا مئات الآلاف من الكتب الإسلامية، بما في ذلك نسخ القرآن الكريم، وأغلقوا ما يقرب من ثلاثين ألف مسجد، وقضوا على أوقاف المسلمين، وأجبروا بناتهم على العيش مع الشباب الشيوعيين حسب ما تقتضيه أفكار الماركسيين، وأُبيد في سبيل ذلك عشرات الآلاف من المسلمين الذين تمسكوا بدينهم، ومُنعوا من الحج، حتى نقل لنا من حضروا مع الحجاج التركستانيين والصينيين لما سمح لهم بالحج أنهم كانوا إذا رأوا البيت بكوا بكاء شديدًا فرحًا بالوصول إليه بعد أن حيل بينهم وبينه عشرات السنين.
وكان من مكر الشيوعيين أنهم سلطوا على المسلمين في تركستان عرق الهان الوثني، ووطنوهم في ديار المسلمين لتغيير التركيبة السكانية لبلادهم، وإجبارهم على الهجرة منها.
وفي رمضان الماضي فرضت السلطة الشيوعية قيودًا على بعض العبادات، ومنعت النساء من النقاب كما منعت الرجال من إعفاء اللحى. وأعظم من ذلك منعت المسؤولين الحكوميين المسلمين من صوم رمضان، وعدوا صلاة التراويح والقيام سببًا للتطرف.
لقد عمل الشيوعيون على تغييب هذه الشعوب المسلمة عن الإسلام، وقطعوا صلتها بالمسلمين، واجتهدوا في تجهيلها بكل الوسائل؛ حتى إن كاتبًا زار بلادهم قبل ربع قرن، فذكر أن مساجد المسلمين ليس فيها مصاحف، وكتب في رحلته قائلاً: ولا أنسى منظر أحد أئمة المساجد حين قدمت له نسخة من المصحف فظل يقبله وهو يبكي، ولا مشهد الشاب الذي جاءني ذات مرة ليتوسل إليَّ أن أعطيه مصحفًا لكي يقدمه مهرًا لمخطوبته التي ينوي الزواج بها.
وقد لاحظ في رحلته أن أغلب المصلين يوم الجمعة يرتدون ثيابًا بيضاء، ويركعون ويسجدون وهم صامتون؛ لأنهم قد جُهِّلوا، وحيل بينهم وبين معرفة أحكام دينهم، ولكنهم يحافظون على شعيرة الجمعة، ويعدونها عيدًا، وهي من آثار دينهم التي لم تندرس، فللَّه ما أحرصهم على دينهم! وما أشد ما يلقونه في ذات الله تعالى!
نسأل الله تعالى أن يفرج عنهم وعن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، وأن يظهر أمرهم، ويكبت أعداءهم، وما ذلك على الله بعزيز.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله...
|