حديثنا اليوم عن الواسطة أو الشفاعة أو المحسوبية أو فيتامين (واو) كما يسميها البعض.
وتعريف الواسطة هي طلب العون والمساعدة في إنجاز شيء من إنسان ذو نفوذ لدى من بيده قرار العون والمساعدة على تحقيق المطلوب لإنسان لا يستطيع أن يحقق مطلبه بجهوده الذاتية.
والملاحظ في هذه الأيام انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حق من الحقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، فدخول الجامعة يحتاج إلى واسطة، والحصول على وظيفة يحتاج إلى واسطة، ودخول المستشفيات التخصصية للعلاج يحتاج إلى واسطة، بل إن هناك يقينًا لدى أكثر الناس اليوم أنه لا فائدة من مراجعة أي دائرة كانت حكومية أو أهلية إلا بوجود الواسطة، حتى تحولت حياتنا إلى ما يشبه الارتهان للواسطة لإنجاز معاملاتنا وقضاء حاجاتنا والوصول إلى غاياتنا.
والوساطات والشفاعات تختلف صورها وأحوالها وآثارها، وكذلك الناس يختلفون في مبدأ الواسطة، ففريق غالى وزاد فيها، يتوسط بحق وبغير حق، وبجهل أو بعلم، والفريق الآخر شدد في الواسطة والشفاعة وأغلق بابها، فلا ينفع قريبًا ولا يشفع لصديق، ولا يعين محتاجًا ولا يقف مع صاحب حق، والأصل بين الناس النفع والإعانة والشفاعة والمساعدة فيما يقدر المرء عليه ولا يضر بها أحد؛ لذا يقول الله سبحانه وتعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32] أي: أن الله خلق الخلق فجعلهم درجات، وفاوت بينهم فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والأعمال والعقول وغير ذلك من أجل أن يتخذ بعضهم بعضًا سخريًا، أي: يكون كل منهم مسخرًا لخدمة الآخر وللسعي في حاجته، فالغني يخدم الفقير بجاهه وماله، والفقير يخدم الغني بعمله وسعيه؛ لذا من أعظم أبواب النفع للمسلمين باب الواسطة والشفاعة الحسنه، يقول سبحانه وتعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء: 85]، وقال رسوله : ((اشفعوا تؤجروا)) متفق عليه عن أبي موسى الأشعري، أي: أن تكون الواسطة أو الشفاعة في أمر خير واضح بيّن، كمن يتوسط بين متخاصمين للصلح بينهما، أو زوجين متنافرين ليجمع بينهما، أو التوسط بين دائن ومدين للرفق به وحط شيء من دَينه، أو التوسط لشخص لأنه يمتاز بالأمانة وفي توظيفه تفريج لكربته مع عدم ظلم أحد من الناس، أو طلب شخص ما إعطاء أحد الموظفين ميزات لسبب معقول دون تأثير على الآخرين.
وهذه الميزة الوظيفية من صلاحية المدير، فالواسطة هنا جائزةٌ لما فيها من نفع المسلمين، وقد قال : ((من استطاع منكم أن ينفع أخيه أخاه فليفعل)) السلسلة الصحيحة [472]. وكل ذلك يدخل في قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا، وقوله : ((اشفعوا تؤجروا)).
والضابط في الواسطةِ الجائزة أن تكون الواسطة غير مخالفة للشرع أو للنظام، ولا يترتب عليها ضرر للآخرين. هذا بالنسبة للواسطة أو الشفاعة الحسنة.
وهنا بعض الناس يظن أن كل شفاعةٍ أو واسطةٍ فيها الأجر والثواب! وهذا غيرُ صحيح، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء: 85]. فدل ذلك على وجود نوع من أنواع الشفاعات هو حرام، وهي الشفاعة السيئة، فقد يشفع إنسانٌ بجاهه ومنزلته وكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين ويظلمهم ويأكل أموالهم بالباطل، وقد يشفع إنسانٌ ما في تزويج فاسق أو توظيف سارق أو رجل غير كفء، أو يتوسط لرجل مع دفع رشوة، قال رسول الله : ((من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا)) حديث حسن رواه أبو داود [3074] عن أبي أمامه، أو أن يتوسَّط الشخص لرجلٍ ويترتب على الواسطة حرمان موظف آخر من ترقية مع أنه أكفأ ممن تُوسِّط له، أو منع موظفا من حقه.
وبعضهم يتوسط في كبائر فيكون هو ومرتكب الكبيرة سواء، كالذي يتوسط في تنظيم اللقاءات غير المشروعة بين الجنسين، أو يدل إنسانًا ما على ساحر أو كاهن أو عنوان دعارة، أو يدلّ على بائع خمر أو مخدرات، فيكون مشاركًا في الإثم والمعصية، وهذا من الخذلان وعدم التوفيق والعياذ بالله.
بل وبعض الناس يتوسط أو يشفع في حد من حدود الله، وهذا أيضًا يدخل في قوله تعالى: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا. وقد عدّ ابن القيم الشفاعة والوساطة في الحدود من الكبائر، واستدل بحديث ابن عمر المرفوع: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره)) رواه أحمد [5129]. وتعلمون جميعًا قصة المخزومية التي سرقت، فطلب أهلها من أسامة بن زيد حب رسول الله أن يتوسط عنده فيها فقال له: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) ثم قام فخطب فقال: ((يا أيها الناس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايمَ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) رواه البخاري [6290]. وهذا في الواسطة والشفاعة إذا وصل الحد إلى السلطان فعندها لا يجوز ذلك، لكن إذا لم يصل مرتكب الحد إلى السلطان فالستر عليه والعفو عنه لا بأس فيه.
أيها الإخوة، إن من أسباب النكبات التي تمر بها بلاد المسلمين تعطيل الحدود الشرعية بسبب شفاعة السوء ووساطة السوء، والتي تسبب بالتالي نزول العقوبة الكونية التي تشمل المجتمع كله؛ لذا قال رسول الله : ((حد يقام في الأرض خير من مطر أربعين صباحًا)) رواه ابن حبان [4398] عن أبي هريرة.
ومع ذلك فنحن نرى أن الزاني يزني فيتوسط فيه من يتوسط ولا يقام عليه الحد، ويشرب الخمر من يشربها فيتوسط فيه من يتوسط ولا يقام عليه الحد، ويسرق من يسرق فيتوسط فيه فلا يقام عليه الحد، وفي بعض الأماكن هناك من يسبّ الدين والشرع ويستهزئ به فلا يقام عليه الحد، بل يجد من يدافع عنه بالباطل، بل إن هناك من يرتد فلا يقام عليه الحد بسبب شفاعات السوء التي تحارب حكم الله ورسوله.
هذه بعض أنواع الشفاعات والوساطات التي تنتشر هذه الأيام في كل أنحاء العالم الإسلامي، وإذا استمر الحال على ذلك فإن الناس سوف يتكلون على الواسطة ويتركون التنافس الشريف بينهم؛ لأنه لماذا يتعلم الإنسان ويجتهد ويكد نهاره ويسهر ليله إذا كان يستطيع الحصول على وظيفة أو تعيين في مكان ما بواسطة أو بخطاب تزكية من فلان أو علان؟! وكذلك كيف يتأدب ويرتدع الفاسق والمجرم ويكف شره عن الآخرين إذا علم أنه سينجو من العقاب لأن قريبه فلان أو صديقه علان الواصل ـ كما يقولون ـ ويستطيع أن يغير الأمور لصالحه؟! ثم ماذا يفعل الضعيف والمسكين والمحروم والذي ليس له واسطة ولا يشفع له أحد؟! أيضيع حقه بسبب ذلك؟!
إن هذا الأمر إذا حدث في أي أمة فقل: عليها السلام؛ لأن النبي يقول: ((إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع)) صحيح الجامع [2421] أي: يأخذ حقه من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه ولا يؤذى وبدون واسطةٍ أو تدخّل من أحدٍ. فهل يفهم الناس ذلك؟! نرجو هذا ونتمناه.
|