أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله، ويتصل الحديث معكم عن تلكم القضية المهمة، والتي شغلت جُلّ تفكير الناس اليوم، واهتم بها الصغار والكبار والرجال والنساء، ألا وهي الرزق، وخاصة في هذا الوقت الذي شحت فيه الوظائف، وتقلصت فيه فرص العمل الوظيفي وغيره، وعمت فيه البطالة عددًا ليس بالقليل من خريجي الجامعات والمدارس والمعاهد ونحوها، خاصة مع ضعف إيمان كثير منهم بأن الرزاق هو الله!
ولقد سبق منا الحديث في الجمعة الماضية عن الرزق، وعما يطمئن نفس المؤمن المتوكل على ربه، ويهبه الثقة بما في يد الله عما في أيدي الناس، ويجعله قنوعًا بما رزقه الله وإن كان يسيرًا، فالرزق مقسوم، قد تكفل الله به للخلق، وكتب رزق كل مخلوق وهو في بطن أمه قبل أن يخرج إلى الدنيا. ، قال الله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا، قال الله تعالى: وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، وقال رسول الله : ((لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)) حسنه الألباني.
أيها الإخوة في الله، ما خلق الله حيًا من الأحياء إلا وقد تعهد برزقه أيًا كان رزقه قليلاً أو كثيرًا، قال الله تعالى: وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رسالة جاء منها: (واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق). فسبحان من قسم الأرزاق بين عباده! فمن الناس من وضع رزقه على المكتب أمامه وهو مستريح على كرسيه، ومنهم من يجريه الله عليه بما يكتبه بيده، ومنهم من وضع الله رزقه أمام الفرن أو التنور، ومنهم من رزقه في مصنع الثلج، هذا أبدًا عند البرودة، وذاك عند الحرارة. ومن الناس من جعل رزقه مع الأولاد الصغار في المدارس أو العمال الكبار في المصانع، ومنهم من رزقه في لجة البحر فهو يغوص ليستخرجه، ألا وفوق طبقات الهواء، فهو يركب الصعاب ليأتي به، ومنهم من رزقه وسط الصخر الصلد فهو يكسره ليستخرجه، ومنهم من رزقه في الأرض، وآخر مع دواب الأرض، وثالث مع كنوز وجواهر الأرض. تعددت الأسباب وكثرت الطرق والرزاق واحد، هو الله جل جلاله.
فالناس كل الناس في سباق، فما منا إلا من يجد أمامه من سبقه، ووراءه من تخلف عنه، كل امرئ منا سابق ومسبوق، والمؤمن الصادق لا ييأس من نفسه ولا يبكي حظه، فإن صار عاليًا فغيره من هو دونه، ودون الدون من هو أسفل منه، قال الله تعالى: وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ.
والله هو الذي قسم الأرزاق، وكتب لكل نفس رزقها وأجلها، ومع ذلك لم يأمرنا بالقعود وترك العمل وبذل الأسباب حتى يأتي الرزق، بل قال الله تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ أي: اعملوا، والأمر من الله، فَامْشُوا ولم يقل: اسعوا، فنمشي لدنيانا وأرزاقنا مشيًا، أما عبادة ربنا وما يقربنا إليه من الطاعات والعبادات فقال: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. مشي للرزق وسعي للعبادة، بخلاف ما عليه المتكالبون على الدنيا من السعي لها والمشي، بل القعود عن العبادة والطاعة، نسأل الله لنا ولهم الهداية والسلامة والعافية.
عباد الله، وكما أن الرزق مقسوم حقّ نؤمن به فلا بد من اتخاذ الأسباب، والناس في أمر الأسباب ذهبوا مذهبين، كلاهما بعيد عن الصواب:
فمنهم من ظن أنه ما دام الرزق مقسومًا فما عليه إلا أن يقعد وينتظر، فيترك العمل ويحتج ببعض الآيات والأحاديث عن رسول الله، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا ـ أي: جائعة ـ وترجع بطانًا)) أي: ممتلئة. رواه أحمد والترمذي بسند صححه الألباني. وغفلوا عن أن هذا الحديث وأمثاله حجة عليهم لا لهم، فالطير هل قعدت في أعشاشها وانتظرت أرزاقها، أم أنها غدت وراحت؟! وهل تملك الطير إلا الغدو والرواح؟!
ومن الناس في المقابل من اتكل على الأسباب وحدها، وظن أن النتائج منوطة بها أبدًا، ونسوا أن وراء الأسباب مسببًا، ولأرزاق الخلائق مدبرًا. فهم بهذا الظن خسروا وإن ربحوا في دنياهم، خسروا شيئًا من دينهم وتوحيدهم وإن ربحوا في مكاسبهم وتجارتهم وأعمالهم،
والصواب: هو العمل بالأسباب مع صدق التوكل على الله والثقة بما عنده، والإيمان بأن كائنًا من كان لا يأكل نعمة لم يكتبها الله له ولو بذل ما بذل، فالله هو المعطي وهو المانع.
أيها الإخوة المؤمنون، وكما أمرنا الله بالسعي والقرب في الأرض لطلب المعاش والرزق فللرزق أسباب شرعية جاءت في الكتاب والسنة، من عمل بها كان حريًا برزق الله وسعته، ومن لم يأت بها كان أبعد عن الرزق إلا أن يشاء الله، ابتلاء وامتحانًا وإمهالاً واستدراجًا من الله. وعرض هذه الأسباب نافع لكل من لم يجد عملاً أو وظيفة، ونافع لكل من ركبته ديون لا يستطيع أداءها، ونافع لكل من لم يستحصل حقًا له عند آخر فهو ينتظره على أحر من الجمر، ونافع كذلك لمن لا يكفيه رابته ولا يغطّي حوائجه من كثرة المصروفات ونحوها، وبالجملة فعرض هذه الأسباب الجالبة للرزق والتي هي بمثابة مفاتيح للرزق فيه خير عظيم لمن تدبرها وعمل بها.
وأول هذه الأسباب: الاستغفار والتوبة، فمن أهم ما يستنزل به الرزق الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى، قال سبحانه حكاية عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا. قال القرطبي رحمة الله: "في هذه الآية دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار"، وقال بن كثير: "أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم، وسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض".
وذكر الإمام القرطبي عن أبي صبيح قال: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، فقيل له: أتاك رجال يشكون أنواعًا فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئًا، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا. الله أكبر، ما أعظم ثمار الاستغفار وأجلها وأكثرها!
ولكن وللأسف فكثير من الناس يستغفرون الله باللسان، ولكن لا حقيقة للاستغفار في قلوبهم، ولا واقع للتوبة في حياتهم، فهم وإن استغفروا وتابوا فاستغفارهم وتوبتهم ناقصة، فبعضهم لا يقلع عن الذنب أصلاً، وبعضهم إذا أقلع فإنه لا يندم على ما فات من الذنب والمعاصي والسيئات، بل لربما تمنى أن يعاود الذنب مرة أخرى. فتوبة واستغفار هذا حالها حري أن لا يحقق الله لصاحبها ما وعد به المستغفرين التائبين الصادقين في توبتهم واستغفارهم، بل لربما ضيّق الله عليهم في أرزاقهم ومعاشهم؛ لأنهم غير صادقين من قلوبهم في توبتهم واستغفارهم.
قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. فالمكثر من التوبة والاستغفار يفرج الله همه وينفس كربه ويرزقه من حيث لا يحتسب.
ومن أسباب الرزق ومفتاح من مفاتيحه: التقوى، التقوى التي عرفها العلماء بقولهم: امتثال أمر الله واجتناب نهيه والوقاية من سخطه وعذابه عز وجل؛ ولذا من صان نفسه عن المعاصي هو متق لله، ومن قام بالواجبات والأوامر وحافظ عليها كان من المتقين لله تعالى، أما من عرض نفسه بالمعصية لسخط الله وعقوبته فقد أخرج نفسه عن وصف المتقين، والدليل على ارتباط التقوى بالرزق قول الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2] أي: من جهة لا تخطر له ببال، يأتيه الرزق من حيث لا يأمل ولا يرجو.
ولهذا السبب شواهد عظيمة كثيرة من قديم وحديث، ولكن الخلل في عدم صدق التقوى وتحققها، فما أكثر المنغمسين في المعاصي مشاهدة واستماعًا وكلامًا واجتماعًا وأفعالاً ثم يقولون: لا نجد رزقًا، لم نجد عملاً، لم نحصل وظيفة! ولو اتقوا الله لجعل لهم من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ولرزقهم من حيث لم يحتسبوا.
قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]، فالعمل بتقوى الله والحكم بما أنزل الله وتنفيذ أحكام كتابة سبب لحلول الرزق وسعته. قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [المائدة: 66] أي: لأكثر الله الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض ولأسبغ عليهم الدنيا إسباغًا.
ومن أسباب الحصول على الرزق: التوكل على الله تعالى، والتوكل: تفويض الأمر إلى الله والاعتماد على الله وحده وعدم التعلق بالمخلوقين، فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ لا عند غيره. والمتوكل الصادق هو الذي يفرغ قلبه من التعلق بغير الله، ويربطه بالله وينتظر الفرج والرزق منه لا من غيره جل وعلا، مع بذل الأسباب والأخذ بها قال رسول الله : ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا))، فهذه الطيور الصغيرة صادقة في توكلها، متوكلة عليه حق توكله سبحانه وتعالى؛ ولذا رزقها الله كل يوم رزقًا، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي: يكفيه رزقه ودينه وما أهمه.
أما من ضعف توكله على الله واعتمد على الآخرين وركن إلى الواسطة الفلانية وتعلق قلبه بالموظف الفلاني أو النتائج لتلك الشركة أو الدائرة فقد يخذله الله؛ لأنه ما صدق التوكل على الله، ولا اعتمد بقلبه على الله، ولم يترقب الفرج والرزق من الله.
ومن أسباب الرزق العظيمة: التفرغ لعبادة الله جل جلاله، ومعنى تفرغ العبد لعبادة الله أي: أن يكون العبد حاضر القلب عند العبادة، هذا هو المقصود بالتفرغ لعبادة الله، وليس المقصود بالتفرغ ترك السعي لكسب المعيشة والجلوس في المسجد ليلاً ونهارًا، كلا، بل المراد أن يكون العبد حاضر القلب والجسد أثناء العبادة، خاشعًا خاضعًا لله رب العالمين، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلاَّ تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك)) رواه أحمد والترمذي بسند صححه الألباني. وفي رواية أخرى: ((يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقًا. يا ابن آدم، لا تباعدني فأملأ قلبك فقرًا وأملأ يديك شغلاً)) صحيح.
فبعض الناس ـ عياذًا بالله ـ قد ملأ الله يديه شغلاً، فأعماله وتجارته وارتباطاته الدنيوية ليس لها حد، ومع هذا قد ملأ الله قلبه فقرًا، لم يرزقه الله القناعة أو البركة فيما آتاه؛ لأنه ما فرغ قلبه لعبادة الله بحضور قلبه فيها.
ومن أسباب الرزق: المتابعة بين الحج والعمرة، بمعنى أن يجعل أحدهما تابعًا للآخر، أي: إذا حج يعتمر وإذا اعتمر يحج وهكذا. والدليل على ذلك قول المصطفى : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)) رواه أحمد والترمذي بسند صححه الألباني. فجعل المتابعة بين الحج والعمرة نافية للفقر والذنوب مذهبة لهما.
ومن الأسباب الشرعية للرزق: صلة الرحم، فهي من مفاتيح الرزق، قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه)) متفق عليه، وفي رواية: ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر)) أي: تطيل عمره بالبركة فيه. رواه أحمد والترمذي بسند صححه الألباني.
والرحم هم أقارب الرجل سواء من جهة أبيه أو أمه، سواء كانوا يرثونه أم لا، وسواء كان ذا محرم أم لا، وسواء كان طائعًا أو عاصيًا، قال رسول الله : ((إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا)) رواه ابن حبان وهو صحيح.
ومن أسباب الرزق ومفاتيحه: الإنفاق في سبيل الله، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]، وقال النبي : عن ربه عز وجل: ((يا ابن آدم، أنفق ينفق عليك)) رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((ما طلعت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان، إنهما يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وما غربت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجّل لمنفق خلفًا، وعجل لممسك تلفًا)) رواه ابن السني في القناعة وقال مخرجه: صحيح. ويقول النبي لبلال: ((أنفق ـ يا بلال ـ ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)) رواه البزار والطبراني بسند صحيح، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((بينما رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتًا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟! فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأردّ فيها ثلثه))، وفي رواية: ((أجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل)). فالصدقة والإنفاق في سبيل الله من أسباب الرزق وسعته.
وكذلك الإحسان إلى الضعفاء والفقراء لقول رسول الله : ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه البخاري، وفي رواية: ((أبغوني في ضعفائكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) حديث صحيح.
عباد الله، هذه بعض الأسباب الشرعية الجالبة للرزق، فإذا ما ضاقت الدنيا بعبد في بقعة من البقاع فمن أسباب طلب الرزق الهجرة، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً أي: يجد في الأرض التي هاجر إليها من الخير والنعمة ما يكون سببًا لرغم أنوف من أخرجوه من بلده، ويجد أيضًا سعة في الرزق، كما حصل لأصحاب النبي لما هاجروا من بلادهم مكة إلى المدينة، فحصلوا من الخير والنعمة والفضل ما أرغموا به أنوف كفار قريش، وزادهم الله سعة في أرزاقهم.
أيها الإخوة الفضلاء، هذه أبرز أسباب زيادة الرزق، والقضية تحتاج إلى صبر ومصابرة وعمل وامتثال؛ لأن البعض يقول: تبت ولم أجد الرزق! وَصَلتُ رحمي وما توسع رزقي، تصدّقتُ اليوم فما زاد رزقي! فالله وعد وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا، ونتائج كثير من الأعمال لا ترى فورًا، بل قد يؤجل الله الرزق لعبده في وقت هو أحوج ما يكون إليه.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يُمد في أعمارنا، وأن يوسع في أرزاقنا ويجعلها عونًا لنا على طاعته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب...
|