لقد بعث الله نبيه محمدًا إلى العالمين؛ فأخرج به المؤمنين من الضلالة إلى الهدى، وبصّرهم طريق الحق من بعد العمى، وغدوا أئمة هدى ومصابيح للدجى، وصاروا سادة الأمم بعد أن كانوا رعاة الإبل والغنم.
ولما جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا قبض الله نبيه ، فرحل بأبي هو وأمي عن الدنيا دون أن يورّث دينارًا ولا درهمًا، ولكنه ورّث العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر وفاز بميراث زاخر، وكان وريثًا لخاتم الأنبياء إلا أن الوحي لا يتنزل عليه من السماء.
أيها المسلمون، لما حكم الله تعالى أن تختم الرسالات بمحمد قضى ـ جلّت حكمته ـ أن يكون العلماء في أمته خلفاء له في تبليغ الدين وهداية العالمين وتوضيح أحكام الملة للمسلمين. وهذا ما يفسّر عظيم مكانة العلماء وجليل قدرهم وفداحة الخطب بفقدهم.
عباد الله، إن فقد العلماء ثُلمة في الدين وسراج ينطفئ نوره بين العالمين، فكم من هدى قد نشروه! وكم من منكر بإذن الله قد منعوه! كم من ضال تائه قد هدَوه! وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! قال الحسن البصري: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسُدّها شيء ما اختلف الليل والنهار".
إن قبض العالم نقص للأرض من أطرافها، يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. روى الطبري عن ابن عباس ومجاهد: (إن نقص الأرض من أطرافها هو بموت العلماء والفقهاء)، وبه قال عطاء وجماعة من العلماء.
الأرض تحيـا إذا ما عـاش عالمها متَى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
وإن موت العالم هو علامة لارتفاع العلم عن الأرض، روى الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))، وروى الإمام أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة أن النبي قال: ((خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع))، فقال أعرابي: كيف يرفع؟! قال: ((ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته)) ثلاث مرات. قال ابن مسعود : (عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضه ذهاب أهله).
أيها المسلمون، لقد رزئت أمة الإسلام وفُجع المسلمون بفقد إمام من أئمة الهدى وهو علم الأعلام والحبر القدوة الهمام العالم الجهبذ الإمام عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين قدّس الله روحه ونوّر ضريحه وأسبغ على تربته شآبيب رضوانه ومغفرته بعد عقود ثمانية ملأها علمًا وعملاً وعبادة ودعوة في زمان، يعزّ فيه نظيره ويندر فيه مثيله.
لقد كان رحمه الله عظيمًا حتى في الممات، فإن من شاهد تلك الجموع ورآها تذرف لفقده الدموع، ومن أبصر تلك الحشود واجتماع تلك الوفود حتى ضاقت بهم في المسجد الرحبات واكتظت بهم الشوارع والطرقات، إن من عاين ذلك كله تيقّن مكانة هذا العلم في قلوب الأمم، وأدرك طرفًا من منزلة ذلك الإمام في صدور الأنام.
عباد الله، قال الحافظ ابن حجر في وصف عبد الله بن المبارك: "فقيه عالم جواد مجاهد جُمعت فيه خصال الخير". وإنا لنحسب أن شيخنا يستحق مثل هذا الوصف ولا نزكّيه على الله؛ فهو الفقيه الذي لا يجارى والعالم الذي لا يبارى، جواد فاق بجوده وسخاوة نفسه كثيرًا من الباذلين، ومجاهد أرغم الله به أنوف الزنادقة والروافض والعلمانيين والملحدين. جمع خصال الخير، فلم يترك منها بابًا إلا ولجه ولا طريقًا إلا انتهجه.
ولقد علّمنا هذا الإمام الجليل بحياته أن المرء من أهل زماننا يستطيع بعد توفيق الله أن يجمع خصال الخير وأبواب البر والإحسان، وعلّمنا بموته أن الإنسان يقدر أن يأسر قلوب الناس ويولعها بحبه ويبكيها بعده دون أن يبذل لها من ماله كثيرًا.
أيها المسلمون، لئن تغشّانا الحزن وغلب علينا البكاء فليس ذلك لأجل الشيخ رحمه الله، فإننا ومن باب حسن الظن بالله نرجو أن ما يُقبل عليه الشيخ في الآخرة خير له مما تركه من الدنيا، لكننا نبكي على أنفسنا وأمتنا إذ فقدناه في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى شيخنا وأمثاله، كما نحزن لأننا افتقدنا في هذه الدنيا إطلالة شيخنا المضيئة وابتسامته الوضيئة، وخسرنا مرآه البهي ودرسه الهنيّ وعطاءه السخي.
ولكننا مع فادح الخطب وعظيم المصاب نسأل الله أن يلهمنا الصبر ويُعْظِم لنا فيه الثواب، ونضرع إلى مولانا أن يرزقنا الثبات حتى يقوم الحساب. وإنا لنقول مقتدين بما قاله الرسول : إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراق شيخنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرًا منها.
اللهم اغفر لشيخنا ابن جبرين، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوّر له فيه.
بارك الله لي ولكم...
|