أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بطاعة الله جلّ وعلا وتقواه سرًّا وجهرًا، فبذلك تحصل السعادةُ الكبرى وتُنال الغنيمة العظمى.
إخوةَ الإسلام، بحمد الله وتوفيقه اختتَم أولادُنا الامتحاناتِ الدراسية، نسأل الله لنا ولهم وللمسلِمين التوفيقَ الدائم والنجاحَ المستمرَّ، وبهذه المناسبة نقف وقفاتٍ يسيرة:
الأولى: أنّ ما يحصل من الوالدين من مراقبة دائمةٍ ومتابعة مستمرّة للأولاد أيامَ الامتحان أمرٌ محمود، ولكن من الخطَأ العظيم أن ينفُضَ الوالدان أيديَهما عن هذه المبادئ الخيِّرة والمساعي الجميلة سائرَ أيامه، خاصة وقتَ الإجازة، فمِن مضامين رعاية الأمانة وجوبُ رعاية الأولاد ولزومُ مراقبتهم في كلّ شأن، والحذرُ من ترك الحبل على الغارب لهم؛ حتى لا يقَعوا في أسباب الشرّ والفساد وسبُل الغيّ والضلال، لا سيما في مثل هذه الأزمان التي عمَّ فيها الشرّ وكثرت فيها أسبابُ الفساد، فربُّنا جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، ونبيُّنا يقول: ((كلكم راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته)) متفق عليه.
إخوة الإسلام، في بلاد الحرمين وغيرها من بلدان المسلمين مساعٍ خيِّرةٌ من ثلّة صالحة في مواسم الإجازة من حلقاتِ تحفيظِ القرآن والسنة والدورات العلمية النافعة والدورات التثقيفيّة النافعة في أمور الدنيا، فبادِروا إلى توجيهِ الأولاد لاقتناص مثل هذه الفرص واغتنامها، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (أدِّب ولدك؛ فإنك مسؤول عنه ما علمتَه، وهو مسؤول عن برّك وطاعته لك بعد ذلك)، وعن سعيد بن العاص رضي الله عنه قال: (إذا علمتُ ولدي القرآن وحجّجته وزوّجته فقد قضيتُ حقَّه وبقي حقي عليه)، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنّا نعلّم أولادنا مغازيَ رسولِ الله كما نعلِّمهم السورةَ من القرآن). وفي حياة التابعين عِبرٌ، فعَن إبراهيم بن أدهَم رحمه الله قال: قال لي أبي: يا بنيّ، اطلب الحديث، فكلّما سمعت حديثًا وحفظتَه فلك دِرهم، قال إبراهيم: فطلبت الحديثَ على هذا.
الوقفة الثانية: أنّ أهلَ العقول النيرة والقلوبِ الواعية يتذكّرون بالامتحانات وترقُّبِ النتائج المُرضِية بعدها، يتذكّرون الامتحان الأعظم والابتلاءَ الأكبر، وهو يوم العرض الأكبر على الجبّار جل وعلا، يقول جل وعلا: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك: 2]. فهذه الحياة مزرعة للآخرة، وهي ميدان يجِب أن يعمَر بأداء الواجبات وامتثال المأمورات واجتناب المنهيّات والمبادرةِ إلى الخيرات، فالوَيل ثمّ الويل لمن أخفَقَ في هذا الابتلاء، ويل لمن ضيَّعها سدًى وفوَّتها في المُوبقات والسيّئات، فربنا جل وعلا يقول: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [الأعراف: 8، 9].
الوقفة الثالثة: أن على الوالدين أن يغرِسا في قلوب الأولاد تعظيمَ الله جل وعلا في كلّ مناسبة تمر من حياتهم، ومنها أنه حينما تصدُر النتائجُ المدرسيّة المُرضية فعليهما حينئذ توجيهُ الأولاد إلى شكر المنعم سبحانه وتعالى وتعظيمِه والثناءِ عليه، وأن يغرِسا في قلوبهم أنّه سبحانه واهبُ النعم ودافِع النّقَم، وأن التوفيق والنجاحَ بيده وحدَه، فربنا جلّ وعلا يقول: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113]، وأن الواجب حينئذ شكره سبحانه بامتثال أوامره واجتناب غضبه، وليحذَر الوالدان عند إخفاقِ الولَد في النتيجة من القسوة والغلظة والتأنيب عليه؛ فذلك لا يجدي شيئًا، فالعنفُ عاقبتُه سيئة والرفقُ خيرٌ كلُّه، بل يوجهان الولد حينئذ بأن يتوكّل على الله جل وعلا، وأن يشمّر إلى الجد والاجتهاد، فمع العسر يسرٌ ومع الكرب فرَجٌ قريبٌ بإذن الله، ومن توكّل على الله ودَعاه مع السعيِ والاجتهاد فإنّ الله جل وعلا يجعل له مخرجًا، ومن جدّ وجدَ ومن زرع حصَد.
الوقفة الرابعة: الإجازة موسِم عظيمٌ يجِد فيه الطلاب والطالباتُ توفّرا في الأوقات وفَراغًا من الأعمال والمهمّات، وقد قال النبيّ فيما رواه البخاري: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)). فاحرصوا ـ أيها الشباب ـ على مَلء هذه الإجازةِ بكلّ صالح ونافعٍ من وجوه الخير المتعدّدة ومجالات النفع المتنوعة، خاصة فيما يقرّبكم إلى المولى جل وعلا ويرضيه عنكم في الآخرة والأولى. سيّدكم وسيِّدنا ورسولنا وحبيبنا يقول: ((اغتنم خمسًا فبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فَقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتّك قبل موتك)) والحديث إسناده حسن.
الوقفة الخامسة: يحرصُ شياطين الأنس على الإضلالِ والإغواءِ بنشرِ سموم المخدّرات وبثِّ أضرار الموبقات، خاصّة في مثل هذه المواسِم، فربّنا جل وعلا يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112].
فيا شباب الإسلام، احذروا أشدَّ الحذر من تلك الفتن التي تمهِّد أسبابَ الانغماس في أوحال الضلالة والأخلاق المنحطّة والسلوكيّات المعوجَّة، تجنَّبوا أوكارَ الضلالة ومواطئَ الإثم والفسق، وتباعَدوا عن أمكان الريبة، فربكم جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ [النساء: 71]. ولنعلم أنه في مثل مواسِم الإجازات تسجِّلُ الإحصائياتُ من وقائع الجرائم وواقعات الانحراف أكثرَ مما تسجِّله في غيرها، فكن -أيها الشاب- وكوني -أيتها الشابة- على حذرٍ من قرناءِ السوء الذي يدعون إلى كل قبيح ويوقعون فيما فيه أسوَأ عاقبة وأقبَح مَصير، فكم من شابّ وقع في قضيّة فسادٍ كبيرة بسبَب قرناء السوء وأصحابِ الفجور والخَنا، وهذه مقارُّ الشرط وقضايا المحاكم تشهَد بهذه الحقيقةِ المُرَّة، فربّنا جلّ وعلا يقول: الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]، ونبيّنا يقول: ((المرء على دين خليله، فلينظُر أحدكم من يخالل)) حديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وإسناده حسن.
الوقفة الأخيرة: دين الإسلام من سِماته التوازنُ والتوسّط، ففي البخاري من حديث أبي جُحَيفة قولُ سلمانَ لأبي الدرداء رضي الله عنهما وعن الصحابة: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطَ لكلّ ذي حق حقَّه، قال : ((صدق سلمان)). قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "تحدَّثوا بكتاب الله وتجالسوا، وإذا مللتم فحديثٌ من أحاديث الرجال حسن جميل". قال بعض أهل العلم: "على العاقل أن يوجد لنفسه ثلاث ساعات: ساعةً يناجي فيها ربَّه، وساعةً يحاسِب فيها نفسَه، وساعةً يخلو فيها بينه وبين نفسه ولذّاتها فيما يحلّ ويجمل؛ فإنّ هذه الساعة عونٌ له على سائر الطاعات". ومن هذا المنطلق فلا بأسَ من اللهو المباح بكلّ نافعٍ ومفيدٍ في حدود الأخلاق العالية والآداب السامية. جاء في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها كانت مع النبيِّ في سفر قالت: فسابقتُه على رجليّ فسبقتُه، فلما حملت اللحمَ سابقته فسبقني، فقال: ((هذه بتلك))، وعند أبي داود أن ركانةَ صارع النبيَّ ، فصرعه النبي .
فحريٌّ بالوالدين القديرَين الحرصُ على ما يدخل السرورَ على نفوس أولادهم، ويدفع عنهم الكلل والملل، ويزيل الهمّ، ويفرج الغمّ، بما هو مباح في الإسلام، وبما يعودُ بالخير، ولا يوقع في شرٍّ وفساد.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، وهو الهادي ونعم النصير.
|