أمّا بعد: فاتقوا الله، اتَّقوا الله بالتقرُّبِ إليه بفعلِ الخيرات وهَجر المنكرات؛ فإنَّ الحياةَ الدنيا سريعةُ الزوالِ متقلِّبة الأحوال، ولم يخلُقِ الله الخلقَ فيها ليكونُوا مخلَّدين، ولا ليكونوا فيها مهمَلين، لا يُؤمَرون بطاعة، ولا يُنهَون عن معصية، بل خلَقهم عبيدًا مكلَّفين، سعادتُهم في طاعةِ ربهم أرحمِ الراحمين، وشقاوَتهم في معصية ربِّ العالمين، قال الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا [النساء: 69، 70]، وقال تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23].
ألا وإنَّ في يدِ الموتِ كأسًا لكلِّ أحد في هذه الدار، سيذوق سكراتِه ويقطَع لذّاته، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات)) يعني الموت. رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"؛ فإنَّ الموتَ ما ذُكِر في قليل إلا كثّره، وما ذُكِر في كثير إلا قلَّله، وكفى بالموت واعظًا. وبعد الموت أهوال مطَّلَعٍ عِظامٌ، لا يدرِي المرءُ هل سيكون قبره روضةً من رياض الجنة أو حفرةً من حفَر النار، والحياةُ الآخرة إمّا نعيمٌ مقيمٌ أبديّ، وإما عذابٌ أليمٌ سرمديّ.
ألا وإنَّ ممّا يسعَد به الإنسان في هذه الدنيا حياةَ القلب ويقظتَه ومراقبةَ المرءِ لنفسِه بمحاسبتِها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، فمن حاسَب نفسه قبل حسابِه في الآخرَة قلَّ حسابُه في الدارِ الأخرى، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزَنوا، وتأهَّبوا للعرض الأكبر قبل لقائه).
وحياةُ القلب أعظمُ ما أنعَم الله به على العبدِ، وبهذه الحياةِ تسرُّه الحسنةُ وتسوؤُه السيِّئة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24]، وقال تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235].
وحياةُ القلب هي توحيدُه لله تعالى ومحبّته والتوكُّل عليه والأنس بذكره والفرحُ بطاعتِه وكراهيَّة معصيته والإنابة إلى دارِ الخلود والحذَر من دار الغرور وتجنُّب المظالم والاستقامةُ على الهدى. وإذا تمّت حياة القلبِ عاش حياةً طيبةً في الدنيا، وسبقت له من الله الحسنى في الأخرى، قال الله تعالى: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام: 122].
والحياة التامّة الأبدية لمن حيِيَت قلوبهم بالإيمان وعمِلوا بالقرآن، قال الله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64]، وفي الحديث: ((مَثَل الذي يذكر الله ومثَل الذي لا يذكُر الله كمَثَل الحيِّ والميِّت)). وذِكرُ الله أعمُّ من ذِكره باللِّسان؛ فالطاعةُ ذكرٌ لله تعالى، وتركُ المعصية لله ذكرٌ للربّ عز وجل.
ألا وإنَّ شقاوةَ القلبِ وإنَّ هلاكَ العَبدِ في الغفلةِ عن الله تبارك وتعالى والإعراضِ عن طرق الخيرات، والغفلة نوعان:
غَفلةُ كفرٍ ونِفاق أكبر، وهذه الغفلة صاحبُها ميّت القلب شقِيّ محروم من كلِّ خير، لا يعمَل بطاعةِ، ولا يكفّ عن معصية، همّه همُّ البهائم، لا يعمل لجنةٍ، ولا يخاف من نار، ولا ينزجِر للَومِ لائمٍ، ولا يُصغِي لناصحٍ، ولا يعبأ بأيّ كلامٍ ناله بِتَرك الفَرائضِ وفِعل المحرَّمات، قال الله تعالى في غفلة الكفرِ والنفاق: مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ [النحل: 106-109]، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]، وقال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 6، 7].
والنوع الثاني من الغفلةِ: غفلةٌ دونَ غفلة الكفر والنفاق الأكبر، وهذه الغفلة درجاتٌ في إثمها ومضارِّها وآثارها على العبدِ وعلى المجتمعِ، وأفرادُ هذا النوعِ مِنَ الغفلة كثيرةٌ لا تُحصى إلا بمشقّة.
فغفلة التقصير في حقوق الله وحقوق العباد، فلا يقوم المسلم بهذا الواجب أتمَّ القيام، فيفوته من الخير والثواب بقدرِ ما فاته من العمل، ويكتسب من الذنوب والآثام والعقوبةِ بسبَبِ الغفلة بقدرِ ما اكتسب بسبب هذه الغفلة عن العواقب وعدَم الاهتمام بالحقوق.
وغفلةٌ عن الشكرِ على النِّعَم، فيأكلُ ويشرُب، ولا يتفكَّر في عظمةِ المنعِم سبحانه وما يجِب له من الحقوق، ولا ينظُر في الطرُق التي وصَل بها إليه الطعام والشراب واللباس الذي يقيه الحرَّ والبرد ويتجمَّل به عند الناس، ولا يُديم الشكرَ على النعَم التي غمَرته من كلِّ جانب، قال تعالى: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [عبس: 25-32]، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70].
وغفلةٌ عن الشكرِ على الصحةِ والعافية التي لا يشتَريها أحدٌ بثمَن، كما قال النبي : ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)).
وغفلةٌ عن الشكرِ على العَقل الذي فضَّل الله تعالى به الإنسانَ، فيدمِّره بالمسكراتِ والمخدِّرات، أو يستعمِله في الشرِّ ومحاربةِ الفضائلِ والخيرات، أو يهمِله فلا ينتفع به.
وغفلةٌ عن الشكرِ على المال، وشكر الله على المال بإعطاءِ الحقوقِ منه وعدمِ الاستطالةِ به وعدم استعماله في المحرمات.
وغفلةٌ عن الشكر على الأمنِ الذي به يقوِّي الله الدينَ ويجمعُ الكلمة ويُصلِح الله به الدنيا ويأمن الناس به على نفوسِهم وعلى أموالهم ومساكنهم. وشكر الله عليه بأن لا يكيد لهذا الأمن، ولا يمكِّن أحدًا يَعبَث به.
وغفلةٌ عن الشكرِ على الولد، فتركُ الشكرِ على الولد هو بتركِه مهمَلاً بلا توجيهٍ وتربية إسلاميّة، وشُكر الله على الولد بإلزامهِ بطاعةِ الله وإصلاحِ أمرِه وأحوالِه بما يحقِّق له السعادةَ في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، فليحذرِ المسلم من الغفلة؛ فإنَّ باب الغفلةِ يدخُل منه الشيطانُ عليه، وشرٌّ عظيم على المسلم أن يتّقيَه بما شرع الله له من العلم النافِع والعملِ الصالح ودوام التذكّر واليقظة والحرص على إغلاقِ مداخلِ الشيطان عليه، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف: 201، 202].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسلين وقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
|