|
||
. |
||
حكم الحج وفضله: خامساً: بعض حِكَم الحج ومنافعه: الصفحة السابقة الصفحة التالية |
||
|
||
خامسا: بعض حِكَم الحج ومنافعه: قال تعالى: {لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ} [الحج:28، 29]. قال ابن جرير رحمه الله: "وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضى الله والتجارة، وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت"([1]). وقال القرطبي رحمه الله: "{مَنَـٰفِعَ لَهُمْ} أي: المناسك؛ كعرفات والمشعر الحرام، وقيل: المغفرة، وقيل: التجارة، وقيل: هو عموم، أي: ليحضروا منافع لهم، أي: ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة... فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى"([2]). وقال الشوكاني رحمه الله: "المنافع: هي التي تعمّ منافع الدنيا والآخرة"([3]). وقال ابن سعدي رحمه الله: "أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسب وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد، كُلٌّ يعرفه"([4]). وقال الشنقيطي رحمه الله: "{مَنَـٰفِعَ} جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي؟ وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة... ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البُدن والذبائح"([5]). وقال ابن باز رحمه الله: "فأوضح سبحانه في هذه الآيات أنه دعا عباده للحج ليشهدوا منافع لهم، ثم ذكر سبحانه منها أربع منافع: الأولى: ذكره عز وجل في الأيام المعلومات، وهي عشر ذي الحجة وأيام التشريق. الثانية والثالثة والرابعة: أخبر عنها سبحانه بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ}. وأعظم هذه المنافع وأكبرها شأناً ما يشهده الحاج من توجه القلوب إلى الله سبحانه، والإقبال عليه والإكثار من ذكره بالتلبية وغيرها من أنواع الذكر، وهذا يتضمن الإخلاص لله في العبادة، وتعظيم حرماته والتفكر في كل ما يقرب لديه ويباعد من غضبه. ومن منافع الحج وفوائده العظيمة: أنه يذكر الآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المشاعر تجمع الناس في زيٍّ واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس، يذكرون الله سبحانه ويلبون دعواته، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاةً عراةً غرلاً خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في العمل... وفي الحج فوائد أخرى ومنافع متنوعة خاصة وعامة، ويطول الكلام بتعدادها"([6]). إعلاء شعار التوحيد والبراءة من الشرك: قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر لله عز وجل، وكله دعوة إلى توحيد والاستقامة على دينه والثبات على ما بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما بعثه الله به من الحق والهدى في الحج وغيره، فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يعلن توحيده وإخلاصه لله وأن الله سبحانه لا شريك له". فيه دربة على الجهاد في سبيل الله: فتحمل المشاق فيه، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الحج دليل واضح على تعويد الإنسان على تحمل المشاق في سبيل الله. أنه ميدان خصب للدعوة إلى الله: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في منى يدعوهم إلى توحيد الله ونصرة دينه. قال ابن باز رحمه الله: "فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه إلى الخير والإعانة على الحق، فإذا التقى مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا وتذكروا فيما يجب عليهم مما شرع الله لهم كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيد كلمتهم واستقامتهم على دين الله، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى. فالحج فيه منافع عظيمة فيه خيرات كثيرة، فيه دعوة إلى الله، وتعليم وإرشاد وتعارف وتعاون على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي"([7]). وقال رحمه الله: "ولا ريب أن الحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه والإرشاد، فالواجب أن تكون دعوتهم بالأساليب الحسنة التي يرجى منها قبول الحق وترك الباطل، قال الله جل وعلا: {ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ} [النحل:125]"([8]). أنه مؤتمر عالمي للمسلمين: قال ابن باز رحمه الله: "إن الله عز وجل جعل موسم الحج مؤتمراً لعباده يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا، ومن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه، ويطلبون حطَّ ذنوبهم وغفران سيئاتهم، يرفعون إليه جميع حوائجهم ويسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله عز وجل: {وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ} [الحج:27، 28]"([9]). وقال الشيخ عبد الله البسام: "فهو ـ أي: الحج ـ مجمع حافل كبير يضم جميع وفد المسلمين من أقطار الدنيا في زمن واحد، ومكان واحد، فيكون فيه التآلف والتعارف والتفاهم مما يجعل المسلمين أمة واحد وصفاً واحداً فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم"([10]). ويمكن تصنيف هذه الفوائد والمنافع إلى: أ- فوائد الحج الدينية: 1- أنه يكفر الذنوب، ويطهّر النفس من شوائب المعاصي. 2- يقوي الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، يرقق المشاعر ويهيّج العواطف. 3- بالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ذلك لأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلاّ عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلاّ استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً. 4- في الحج إظهار للعبودية، لأن الحاج في حال إحرامه، يظهر الشعث، ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبدٍ سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه([11]). ب- الفوائد الشخصية: 1- الحج يعوّد الإنسان الصبر، وتحمّل المتاعب، ويعلّم الانضباط، والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل إرضاء الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار. 2- يطهّر النفس ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل، وحسن الظن بالله. 3- يذكّر الحجّ المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح، الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح. 4- توطين القلب على فراق الأهل والولد، إذ لا بد من مفارقتهم، فلو فارقهم فجأة يلزمه أمرٌ عظيم عند صدمة الفراق. 5- نزع مادة الشحّ عن صدر الشحيح، فإن المبتلى بالشح إذا خرج إلى هذا السفر لا يمكنه أن يبخل على نفسه، لخوف التلف، فيعتاد الجود على نفسه، فيتعدى عادته منه إلى غيره، فينال محمدة الأسخياء، وهذا أمرٌ معتاد، أن من كان من أبخل الناس، متى خرج في هذا السفر يعتاد الجود. 6- أن يعتاد التوكل بأنه لا يمكنه أن يحمل مع نفسه جميع ما يحتاج إليه، فلا بدّ من التوكل على الله تعالى، فيما لم يحمله مع نفسه، فيتعدى توكله إلى ما يحتاج في الحضرة. 7- أن الحاج وإن اشتدت مشقته، وبعدت شقته فإذا وقع بصره على بيت الله زال الكلال فلا كلال ولا ملال، وكذا في يوم القيامة، وإن طال اليوم وعاين الأهوال، واشتدت الأهوال، فإذا نظر إلى ربه المتعال زال ما به نزل، وكأنه في روح وراحة لم يزل، فسبحان الله يزول الكلال والعي والتعب ممن رأى البيت فكيف بمن رأى خالق البيت؟!([12]). ج- فوائد الحج الاجتماعية: 1- أنه يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم. 2- المذاكرة في شؤون المسلمين العامة. 3- التعاون صفاً واحداً أمام الأعداء. 4- يُشعر الحجّ بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويحسّ الناس أنهم حقاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى. 5- يساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية، ودعم نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم نشر دعوته بلقاء وفود الحجيج كل عام. 6- إمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم([13]). أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، ويقدم الحجيج من كل فجٍ، ومن كل قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم، يتجمع كله في البلد الحرام، في موسم واحد، فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج، وسوق عالمية في كل عام([14]). د- عبر ودروس ومواعظ في الحج: 1- عند السفر: ليتذكر المسافر باليوم الذي يعيّنه لسفره اليوم الذي فيه حلول أجله، وسفره إلى آخرته، وبما بين يديه من وعثاء السفر وخطره ومشقّاته ما بين يديه في سفر الآخرة من أهوال الموت، وظُلمة القبر وعذابه، وسؤال منكر ونكير، وأهوال يوم القيامة وخطرها، وليستودع ربه ما خلّفه من أهل ومال وولد، بإخلاص وصدق نيّة([15]). 2- عند ركوب الدابة: ليتذكر عند ركوب الدابة المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة، وهي الجنازة التي يحمل عليها، وما يدريه لعلّ الموت قريب، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل([16]). 3- إذا جنّ الليل في السفر: تذكّر إذا جن الليل ـ وأنت بعيد عن أهلك ومن كان يؤنسك ـ مبيتك في ظلمة القبر مفرداً عن أهلك، ومن كان يؤنسك، غريباً بين جيرانك، واحرص على فراغ قلبك للاعتبار والذكر، وتعظيم الشعائر، وعلى قطع العلائق الشاغلة عن الله، وتوجّه بقلبك كله إلى ربك، كما تتوجّه بظاهرك إلى بيته، فإن المقصود ربّ البيت([17]). 4- التأمل في مخلوقات الله: المسافر يتأمل، ثم يتدبّر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله وعظيم قدرته، وقد أنكر الله عزوجل على أناسٍ يسيحون في الأرض ولا يتأملون في خلقه فيعرفون حقه، قال تعالى: {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]. قال الشاعر: تـأمّل في نبات الأرض وانظر إلى آثـار ما صنـع المليـك عيـون من لُجـين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بـأن الله ليس له شريـك([18]) 5- الميقات: ليتذكر الحاج بوصوله إلى الميقات أن الله تعالى قد أهلّه للقدوم عليه، والقرب من حضرته، فليلزم الأدب معه ليصلح لإقباله عليه بمزيد الإحسان إليه([19]). وليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة، وما بينهما من الأهوال والمطالبات([20]). 6- الإحرام ولبس الإزار والرداء: فليتذكر عنده الكفن، ولفه فيه، فإنه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل، وربما لا يتم سفره إليه، وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلاّ مخالفاً عادته في الزي والهيئة، فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلاّ في زي مخالف لزيّ الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب، إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن([21]). 7- التلبية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة، لك والملك، لا شريك لك". إن هذه الكلمات بمنزلة النشيد الذي ينشده الجند في ساحة الحرب، فتشع فيهم روح الحماسة والإقدام، والغاية من ترديد هذه التلبية أن يلقي الإنسان مقادته لله، وأن يتحطم كبرياؤه، لكي يعيش كما أمره الله أن يعيش مخلوقاً وديعاً، واقفاً عند الحدود التي شرعها له([22]). وللتلبية فوائد أخر، ذكر منها ابن القيم إحدى وعشرين فائدة([23]). 8- دخول مكة: إذا دخلت مكة فأحضر في نفسك تعظيمها وأمنها وشرفها([24]). فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل، وليخش أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائباً، ومستحقاً للمقت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحقّ الزائر مرعيّ، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع([25]). 9- الطواف: ينبغي للطائف أن يستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته، فيلزم الأدب في ظاهره وباطنه، وليحذر من الإساءة في ذلك المحل الشريف. وانْوِ إذا رملت في الطواف أنك هارب من ذنوبك، وإذا مشيت فترج من ربك الأمن من عذاب ما هربت منه بقبول توبتك([26]). 10- السعي: وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك، وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو ردّ، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يُرحم في الثانية إن لم يُرحم في الأولى([27]). ومثِّل الصفا والمروة بكفتيّ الميزان، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، متردداً بين خوف العذاب ورجاء الغفران([28]). 11- يوم الوقوف بعرفة: أمّا الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، وإتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر، اقتفاء لهم، وسيراً بسيرهم، عرصات القيامة، وإذا تذكرت ذلك فالزم قلبك الضراعة، والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين([29]). وتذكّر بانتظار غروب الشمس انتظار أهل المحشر فصل القضاء بشفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم([30]). ومن حكم الوقوف بعرفة تجديد الشخصية، والانخلاع من الماضي المشوب بالإثم والباطل، وتجديد العهد مع الله على استئناف حياة نظيفة مستقيمة([31]). 12- رمي الجمار: وتذكر عند رمي الجمار كلما رميتها رمي الشيطان، والتحصن منه بكلمات الله التامات وطاعاته، فإنك في الظاهر ترمي الحصى إلى الجمرة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلاّ بامتثال أمر الله تعالى تعظيماً لمجرد أمره من غير حظ للنفس فيه([32]). 13- ذبح الهدي: ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر إن هي إلاّ رموز تعبيرية عن التوجّه إلى ربّ البيت وطاعته، وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام، وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوّجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة([33]). 14- الحلق والتقصير: التحلل من الإحرام بالحلق، فالحلق في الإحرام بمنزلة السلام في الصلاة، فعند الحلق يزول عن ظاهره كل ما عليه من التفث، ومكروه الطبع بأمر الله تعالى، فكأنه يقول عبدي، أزلت عن ظاهرك ما تكرهه بأمري، فأولى أن أزيل عن باطنك ما أكرهه من المعاصي بعفوي([34]). وانْوِ عند حلق شعرك أنك قد أسقطت عنك التبعات، وأدناس الخطيئات، وفارقت أصحابك في غير التقوى والطاعات([35]). 15- طواف الوداع: إذا أراد الرجوع إلى وطنه يطوف بالبيت، كأنه يستأذن بالرجوع، فإن الضيف إذا نزل يرتحل بأمر المضيف، هذا باب الله العزيز الوهّاب، نزل العبدُ على بابه، وتعلق بحجابه بأمره، فلا يمكنه الرجوع إلاّ بإذنه، فمن رجع من ضيافة السلطان يرجع بخلعة، فمن رجع من بيت الرحمن فأدناه أن يرجع بالمغفرة([36]). 16- الفدية والدم: إن الحاج كلما جنى جناية على إحرامه لزمه دم، فإن نقائص الحج تجبر بالدم، يشير هذا إلى أن سبيل المحبة إراقة الدم، وبذل الروح، وترك الوطن، وفراق الأهل والولد، ومجانبة الشهوات، فمن قدر على إراقة الدم أراق الدم، ومن لم يقدر أطعم، ومن لم يقدر صام للرب الأكرم([37]).
([1]) جامع البيان (10/147). ([2]) الجامع لأحكام القرآن (12/41). ([3]) فتح القدير (3/642). ([4]) تيسير الكريم الرحمن (3/317). ([5]) أضواء البيان (5/489-490). ([6]) انظر: مجلة التوعية الإسلامية في الحج (ص 11/14). العدد (209) من ذي الحجة (1414هـ). ([7]) انظر: مجلة البحوث الإسلامية العدد (29)، (ص 13-14). ([8]) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع الشويعر (16/325). ([9]) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، إعداد: الطيار وأحمد ابن باز (5/2/37). ([10]) توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/244). ([11]) انظر: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (3/11-13). ([12]) انظر: محاسن الإسلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري (ص 28-29). ([13]) انظر: الفقه الإسلام وأدلته للزحيلي (3/13-14). ([14]) في ظلال القرآن لسيد قطب (4/2418-2419)، وانظر: التبصرة لابن الجوزي (2/152)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/413). ([15]) هداية السالك لابن جماعة الكناني (1/139). وانظر: إحياء علوم الدين للغزالي (1/355). ([16]) إحياء علوم الدين (1/354). ([17]) هداية السالك (1/150). ([18]) المنهاج للمعتمر والحاج للشريم (ص 11-12). ([19]) هداية السالك (1/152). ([20]) إحياء علوم الدين (1/355). ([21]) إحياء علوم الدين (1/354-355). ([22]) روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة (ص 263). ([23]) انظر: تهذيب السنن (2/337-340). ([24]) هداية السالك (1/156). ([25]) إحياء علوم الدين (1/356). ([26]) هداية السالك (1/159-160). ([27]) إحياء علوم الدين (1/357). ([28]) هداية السالك (1/165). ([29]) إحياء علوم الدين (1/357) باختصار. ([30]) هداية السالك (1/165). ([31]) روح الدين الإسلامي (ص 264). ([32]) هداية السالك (1/168). ([33]) في ظلال القرآن (4/2422). ([34]) محاسن الإسلام (ص 33). ([35]) هداية السالك (1/169). ([36]) محاسن الإسلام (ص 34). ([37]) محاسن الإسلام (ص 32). |
||
|
||
. |