عنوان الخطبة

أعلى النعيم

اسم الخطيب

لافي بن حمود الصاعدي

رقم الخطيب

254

رقم الخطبة

4481

اسم المسجد

جامع الفتح

تاريخ الخطبة

 

ملخص الخطبة

1- الغاية العظمى. 2- رؤية المؤمنين لربهم تعالى في الجنة. 3- من أسباب نيل هذا الثواب العظيم. 4- أحاديث تحرك شوق المسلم. 5- وجوب الإيمان برؤية الله تعالى في الجنة. 6- عذاب الحجب. 7- سؤال الله تعالى لذة النظر إلى وجهه الكريم.

الخطبة الأولى

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها رافقوا أنبياءه، وبها نضرت وجوههم ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن ومن كرب يوم القيامة.

أيها المؤمنون الصادقون، غاية ما يتمناه المسلم هو رضا الله سبحانه ودخول جنته، وهناك غاية أعظم منها وهي رؤية الله سبحانه في جنات النعيم، ولذلك لما كتب ابن القيم كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" ووصل إلى باب: "رؤية المؤمنين لربهم" قال: "هذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدرًا، وأعلاها خطرًا، وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة، وأشدها على أهل البدع والفرقة، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون. إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم. اتفق على الإيمان برؤية الله في الجنة الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون" اهـ.

أيها المسلمون، إن المؤمنين في الجنة يرون ربهم سبحانه من فوقهم رؤيةً حقيقية بأبصارهم كما يُرى الشمس والقمر ليس دونهم سحاب ولا ضباب، ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ أناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله : ((هل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) الحديث، وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسًا في زمن رسول الله قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله : ((وهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((ما تضارون في رؤيته تبارك الله وتعالى يوم القيامة إلاّ كما تضارون في رؤية أحدهما)).

عباد الله، إن من أسباب دخول الجنة ورؤية الرب جلّ وعلا الاجتهادَ في الأعمال الصالحة، ومن أعظم هذه الأعمال الاجتهاد والمحافظة على صلاة الفجر والعصر، وذلك بأدائها في وقتها بحضور قلب، فقد روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا مع النبي ، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: ((إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته)) أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض؛ لأن الشيء إذا كان دقيقًا وصغيرًا ينضم الراؤون ويري بعضهم بعضا، يقول الرسول الكريم: ((إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا))، ثم قرأ قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]. قال ابن القيم أبياتًا جميلة في معنى هذا الحديث:

ولقد أتانـا فِي الصحيحين اللذيـ      ـن هما أصح الكتب بعد قران

أن العبـاد يرونـه سـبحـانـه       رؤيـا العيان كما يرى القمران

فإن استطعتم كل وقت فاحفظوا الـ     ـبردين ما عشتم مدى الأزمان

قال العلماء: "ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين مع ذكر رؤية الله أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا، وهو النظر إلى الله تعالى" اهـ.

أيها المسلمون، لا شيء ألذّ للقلوب ولا أبهج للنفوس من رواية مثل هذه الأحاديث التي تحرّك شوق المسلم إلى شهود ذلك الجناب الأقدس التي تتضاءل وتصغر دونه أنواع المتع واللذات، اسمع ـ يا أخي الكريم ـ إلى هذا الحديث العظيم الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم))، ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله كما فسرها رسول الله .

عباد الله، روى أبو موسى الأشعري عن رسول الله أنه قال: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)).

أمة الإسلام، يجب علينا أن نؤمن بأن الله يراه المؤمنون في الجنة، يجب علينا أن نؤمن بهذا، وأن نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع والبصير، نؤمن بهذه الأحاديث من غير أن نسأل عن الكيفية؛ لأن الكيفية من الغيب الذي امتدح الله المؤمنين بالإيمان به في أول مدح في القرآن، قال سبحانه: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ الآيات [البقرة:1-3].

وليعلم ـ يا عباد الله ـ أن الله يعطي أهل الجنة قوةً ليتحمّلوا بها رؤيته سبحانه؛ لأنهم في الدنيا لا يطيقون أن يتحمّلوا رؤيته سبحانه، فإذا كانت الجبال الرواسي القويّة لا تطيق ذلك فكيف بالإنسان الضعيف؟! قال سبحانه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، وجاء في الحديث الصحيح بأن الله جل جلاله حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

فسبحانك يا ربنا ما عظمناك حق تعظيمك، وسبحانك اللهم ربنا ما قدرناك حق قدرك، وسبحانك ربنا ما خشيناك حق خشيتك، وسبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك، ولكننا نسأله سبحانه وتعالى أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، فإنه يحب العفو والمغفرة، وهو عفو غفور فاستغفروه.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد: أيها المسلمون، ومن أشدّ أنواع العذاب على أهل النار احتجاب الرب تبارك وتعالى عنهم وحرمانهم من النظر إلى وجهه الكريم، ولذا قال سبحانه في سورة المطففين: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

إذا تجلّى الرب لعباده المؤمنين في الجنة نسوا كلّ ما هم فيه من ألوان النعيم من أجل ما ظفرت به أعينهم من اللذة الكبرى بالنظر إلى وجه الله عز وجل، فإذا ما احتجَب عنهم عادوا إلى ما كانوا فيه من ألوان السرور والنعيم، فلهم نعيمان في الجنة: نعيم عند رؤيته سبحانه، وهو أجلها وأشرفها، ونعيم عند احتجابه بما هم فيه من ظلال وفواكه وحور وولدان إلى آخره، فيا حبذا هذان النعيمان.

أخي المسلم، لقد كان رسولنا يسأل ربه لذة النظر إلى وجهه الكريم، فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي مجلز قال: صلى بنا عمارُ صلاةً فأوجز فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أتمّ الركوع والسجود؟! قالوا: بلى، قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله يدعو به: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرةٍ ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين)) وأخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما.

فالشوق إلى لقاء الله عز وجل هو لذة الروح في هذه الدنيا للمؤمن، وفي يوم القيامة يلتذ بالنظر إلى وجه الله الكريم الذي هو حظ العين من دون الجوارح كلها، وليس في هذه الدنيا لدى أهل المعرفة بالله لذة تعدل لذة الشوق إلى لقاء الله، كما أنه ليس في الآخرة لذة تعدل لذة النظر إلى وجهه سبحانه.

قال ابن القيم قدس الله روحه:

والله لولا رؤية الرحمن فِي الـ  ـجنات ما طابت لذي العرفان

أعلى النعيم نعيم رؤية وجهه   وخطـابه فِي جنـة الحيـوان

وأشد شيء في العذاب حجابه  سبحـانه عن ساكنِي النيران

وإذا رآه المؤمنون نسوا الذي   هم فيـه ممـا نالت العينـان

فإذا توارى عنهم عادوا إلَى    لذاتهم مـن سـائر الألـوان

فلهم نعيم عند رؤيته سوى     هـذا النعيـم فحبذا الأمران

أوَما سمعت سؤال أعرف خلقه  بِجلالـه المبعـوث بالقـرآن

شوقًا إليـه ولذة النظر الذي   بجلال وجه الرب ذي السلطان

الشوق لذة روحه في هذه الـ  ـدنيـا ويوم قيـامة الأبدان

تلتذ بالنظر الذي فازت بـه   دون الجوارح هـذه العينـان

والله ما في هذه الدنيا ألذّ من   اشتيـاق العبـد للـرحمـن

عباد الله، صلوا وسلموا على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم...