التحذير من الحرص على المال والشرف في الدنيا

عبد العظيم بن بدوي الخلفي

1090

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب

ملخص المادة العلمية

1-خطر الحرص على المال والشرف على دين المسلم. 2- كيف يكون الحرص على المال. 3- كيف يكون الحرص على الشرف وبعض آفات حب الشرف. 4- خطورة طلب العلم من أجل عرض من عرض الدنيا. 5-أثر التنافس على الدنيا في سلوك الإنسان وأسباب الزهد فيها.

عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).

هذا مثل عظيم جدا، ضربه النبي لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين، يأتيان في الغنم وقد غاب عنها رعاؤها ليلا، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل.

فأخبر النبي أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساويا، وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل.

فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا.

فأما الحرص على المال فهو على نوعين:

أحدهما: شدّة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة، والمبالغة في طلبه، والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة، ولو لم يكن في ذلك إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن صاحبه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم، لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم، ثم لا ينتفع به، بل يتركه لغيره ويرتحل عنه، ويبقى حسابه عليه، ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا حمده، ويقدم على من لا يعذره، لو لم يكن في الحرص على المال إلا هذا لكفى ذما للحرص على المال.

وقد قيل لبعض الحكماء: إن فلانا جمع مالا. فقال: فهل جمع أياما ينفقه فيها؟ قيل: لا، قال: ما جمع شيئا، وفي هذا المعنى قيل:

يا جامعا مانعا والدهـر يرمقه              مفكرا أي باب منه يغلقه

جمعت مالا ففكر هل جمعت له           يا جامع المال أياما تفرقه

المال عندك مخزون لوارثـه               ما المال مالك إلا يوم تنفقه

إن القناعة من لم يحلل بساحتها            لم يأل في طلب مما يؤرقه

وكتب بعض الحكماء إلى أخ له كان حريصا على الدنيا:

أما بعد:

فإنك أصبحت حريصا على الدنيا، تخدمها وهي تخرجك عن نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصا محروما، وزاهدا مرزوقا، ولا ميتا عن كثير، ولا متبلغا من الدنيا باليسير.

والنوع الثاني من الحرص على المال: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، الذي لا يفلح أهله أبدا، قال الله تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].

وقال النبي : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)).

قال العلماء: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها، ويمنعها حقوقها، فلا يرضى بما قسم الله له من الحلال الطيب، بل يتطلع إلى ما حظر عليه ومنع منه، وهذا هو الشح الهالك، الذي أخبر النبي أنه يأمر بالبخل والقطيعة والفجور، ولهذا أخبر أنه: ((لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا)).

وقال : ((شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع)).

فإذا بلغ الحرص على المال هذه الدرجة فإنه لا يبقى في القلب من الدين والإيمان إلا القليل، كما لا يبقى من حظيرة غنم دخل عليها ذئبان جائعان ضاريان ليلا فعملا فيها فسادا في غياب أهلها إلا القليل.

أما الحرص على الشرف فهو أشد هلاكا، وأعظم فسادا، وأكبر ضررا وخطرا من الحرص على المال.

ذلك أن الإنسان بطبيعته يطلب الرياسة والولاية، ويحب الشرف والظهور والعلو.

والزهد في الرياسة أصعب من الزهد في المال، ذلك أن المال ينفق في طلب الشرف والولاية والرياسة، لهذا كان الحرص على الشرف أعظم خطرا وأشد فسادا، وأكبر ضررا من الحرص على المال. والحرص على الشرف نوعان:

الأول: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جدا، وهو في الغالب يمنع شرف الآخرة وكرامتها وعزها، كما قال تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للدين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [القصص:83].

وقل من يطلب الرياسة ويحرص عليها ثم يوفق فيها، ولهذا قال النبي لعبد الرحمن بن سمرة: ((يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)).

وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة)).

وعن أبي موسى الأشعري : ((أن رجلين قالا للنبي : يا رسول الله أمرنا! فقال: إنا لا نوّلي هذا من سأله ولا من حرص عليه)).

ومن دقيق آفات حب الشرف: أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على فعله ويثني عليه به، ويطلب من الناس ذلك، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان هذا الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وربما أظهر أمرا حسنا وأحب المدح عليه وقصد به في الباطن شرا، وهذا يدخل في قوله تعالى: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم [آل عمران:188].

والنوع الثاني من الحرص على الشرف: أن يطلب الشرف بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد.

وهذا أفحش من الأول وأقبح، وأشد فسادا وخطرا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، ويطلب به ما عند الله والقرب منه والزلفى لديه.

قال الثوري: إنما فُضّل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء.

فإذا طلب بشيء من هذا عرض الدنيا الفاني فهو أيضا نوعان :: أن يطلب به المال، فهذا من نوع الحرص على المال وطلبه بالأسباب المحرمة. وفي هذا يقول : ((من تعلّم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)).

وسبب هذا – والله أعلم – أن في الدنيا جنة معجلّة، وهي معرفة الله تعالى ومحبته، والأنس به والشوق إلى لقائه وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشمّ رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة. ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وهو أشد الناس حسرة يوم القيامة، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة فباعها ببعرة أو شيء مستقذر لا ينتفع به.

والنوع الثاني: هو أن يطلب بالعلم والعمل والزهد الرياسة على الخلق والتعاظم عليهم، وأن ينقاد الخلق له ويخضعوا، ويصرفوا وجوههم إليه، وأن يظهر للناس زيادة علمه على العلماء ليعلو به عليهم، ونحو ذلك، فهذا موعده النار لأن قصد التكبر على الخلق محرم في نفسه، فإذا استعمل فيه آلات الآخرة كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان.

عن النبي قال: ((من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار)).

وقال : ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتحيزوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)).

وهكذا تبين لنا ذم الحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن ذلك يفسد الدين كفساد ذئبين جائعين أرسلا في حظيرة غنم ليلا في غياب الرعاة، ولكن النفس مفطورة على طلب العلو والرفعة، والإسلام لا يحارب الفطرة ولا يقاومها، ولكنه يرشدها ويقوّمها، ولذلك أرشد الله تبارك وتعالى عباده إلى طلب العلو في الآخرة، وأمرهم بالتنافس فيه تلبية لدافع الفطرة. قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .

ووصف ما في الجنة من النعيم فقال: إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيم مختوم ختامه مسك [المطففين:22-26].

فالعاقل هو الذي يطلب العلو والرفعة في الآخرة، وينافس الناس في ذلك، كما قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.

إن التنافس في الدنيا قد أهلك الناس! إن التنافس في الدنيا قد أتعب الناس! إن التنافس في الدنيا قد أشقى الناس! إن التنافس في الدنيا قد أتعس الناس!: ((تعس عبد الدينار! وعبد الدرهم! إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!)).

إن التنافس في الدنيا قد أوقع الناس في الشح الذي حملهم على قطع الرحم وعقوق الآباء، والإساءة إلى الجيران، ولم يعد مسلم يعرف لأخيه المسلم حقا بسبب التنافس في الدنيا، ولذلك حذر الإسلام من التنافس في الدنيا، ورغب المسلمين في التنافس في طلب العلو في الآخرة.

قال الله تعالى: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [الإسراء:21].

ففي درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها، والحرص على ذلك، والسعي في أسبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو.

وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقب صاحبه غدا حسرة وندامة، وذلّة وهوانا وصغارا، فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه، وللزهد فيه أسباب:

منها: نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة، فينظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمكذبين، ومن ينازع الله رداء الكبرياء.

فعن النبي قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طيبة الخبال)).

ومنها: نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإنه من تواضع لله رفعه.

ومنها: وليس هو في قدرة العبد ولكنه من فضل الله ورحمته – ما يعوض الله عباده العارفين به، الزاهدين فيما يغني من المال والشرف، مما يجعله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى،، وهيبة الخلق لهم في الظاهر، ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرياسات والحرص على الشرف. كما قال إبراهيم بن أدهم – رحمه الله –:

لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجادلونا عليه بالسيوف.

وقال بعض الصالحين: على قدر هيبتك لله يخافك الخلق، وعلى قدر محبتك لله يحبك الخلق، وعلى قدر اشتغالك بالله يشتغل الخلق بأشغالك.

فالعاقل من حرص على طلب العلو والرفعة في الآخرة، فإن من طلب العلو في الآخرة نال العلو في الدنيا، ومن طلب العلو في الدنيا، فقد العلو في الآخرة، فلم تحرص يا عبد الله على الدنيا وحدها؟ اطلب الآخرة تأتك الدنيا معها، فإذا طلبت الدنيا وحدها فاتتك الآخرة ولم يأتك من الدنيا إلا ما قسم الله لك، ولذا قال النبي : ((من جعل الهموم هما واحدا همّ آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)).

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.

اللهم زهّدنا في الدنيا ووسّع علينا فيها، ولا تحجبها عنا فترغبنا فيها.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب

إلى أعلى