أما بعد: أيها المسلمون، حج نبينا تلك الحجة التي ختم الله بها ما تبقى من شرائع الدين وأحكام الإسلام، تلك الحجة التي ودَّع فيها الحبيب أصحابه وقال لهم: ((لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا))، فكان ما أخبر به حقًا، فلم يلقهم بعد ذلك العام، بل لم يمكث بعد حجته إلا أقل من ثلاثة أشهر.
وكان مما بلغَّه للناس وأعلمهم به ذلك الحدث العظيم، ألا وهو إكمال الدين، فلا زيادة ولا نقصان، فدين الله قد كمل فضلاً من الله ونعمه. أخبرهم بذلك عندما تلا عليهم تلك الآية التي قيل عنها: إنها آخر القرآن نزولاً: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. فأكمل الله دينه الذي ارتضاه لعباده، فما على الناس إلا اتباع هذا الدين الكامل، ومن أراد زيادة أو نقصًا فقد اتهم دين الله بالنقص ورسوله بعدم التبليغ.
ومنذ ذلك الزمان أصبح علماء الإسلام من الصحابة ومن بعدهم، أصبحوا يأخذون أحكام هذا الدين من كتاب الله وسنة رسوله ، يستنبطون منهما ويبنون قواعدهم عليهما وينبذون ما سوى ذلك ويعيبون على كل من خالف الكتاب والسنة أو حاد عنهما.
واستمر الناس ينعمون باتباعهم للدين الحق المبني على الكتاب والسنة، استمرت حالهم على ذلك مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، غير أن ذلك لم يستمر طويلاً، فظهرت بدعة الخوارج وبدعة الروافض، ثم ظهرت بدعة القدر والاعتزال والتجهم، فأنكر ذلك سلف هذه الأمة أشدّ الإنكار، بل لقد قاتل عليّ الخوارج وقتل الروافض، لما زعموا إلهيته فأوقد لهم نارًا وأحرقهم فيها، وعلى ذلك اتفقت كلمة الصحابة رضي الله عنهم.
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يناصبون أهل البدع العداء، بل لقد هجروا من كلمهم أو مشى معهم في طريق، قال أحدهم: كنت أمشى مع عمرو بن عبيد فرآنى ابن عون، فأعرض عني شهرين. وقال يحيى بن أبي كثير: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر. وعن حماد بن زياد قال: قال يحيى بن عبيد: لقيني رجل من المعتزلة فقام فقمت، فقلت: إما أن تمضي وإما أن أمضي؛ فإني أن أمشي مع نصراني أحب إلي من أمشي معك.
ولا عجب في إنكار السلف للبدع ونبذهم لأهلها، فإنّ الجُرم الذي اقترفه أهل البدع لا يعدله جرم؛ ذلك بأنهم أدخلوا في دين الله ما ليس منه افتراءً على الله، وزعموا أن هذه الأعمال التي ابتغوها أنها تقربهم إلى الله، وحاشا لله أن تكون كذلك، بل هي أعمال ضالة مردودة على من عملها.
أخرج الشيخان من حديث عائشة أن النبي قال: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌ))، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ)). وأخبر أن البدع إنما هي شر الأمور وأنها ضلالات لا تزيد صاحبها إلا بعدًا عن الحق، فعن جابر قال: كان رسول الله يقول في خطبته يوم الجمعة: ((فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) أخرجه مسلم في الصحيح.
وصاحب البدعة قد شرع شِرْعة من عند نفسه لم يأذن بها الله، وقد حذر الله من ذلك في قوله: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21].
ولقد عرف السلف خطورة البدع وضررها على الدين، فأنكروها أشد من إنكارهم على المعاصي وأصحابها. هذا أحدهم بل ومن كبارهم أبو إدريس الخولاني يقول: لأن أرى في المسجد نارًا لا أستطيع أن أطفيها أحبُ إليّ من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.
ولم يقتصر إنكارهم على البدع المنتشرة بل عمّ إنكارهم حتى على ما يصدر من أوساط الناس بل ومن جهالهم، فلم يعذروا الجاهل لجهله ولم يجعلوا له الحبل على الغارب يبتدع ما يستحسنه عقله ويخترع ما تزينه له نفسه، فقمعوا كل بدعة في أوانها وإن صغرت، فحمى الله بهم دينه وسنة نبيه.
كان أحد المؤذنين في عهد الإمام الجليل إمام دار الهجرة مالك بن أنس، كان ذلك المؤذن إذا أذن نادى في الناس بعبارات من عنده يحثهم فيها على التبكير للصلاة، وكانوا يسمون هذه العبارات بالتثويب، فلما سمعه الإمام مالك أرسل إليه فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردتُ أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدِث في بلدنا شيئًا لم يكن فيه، قد كان رسول الله بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمرُ وعثمانُ فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه. فكف المؤذن عن ذلك.
ولما رأى عمر الناس يذهبون إلى الشجرة التي وقعت عندها بيعة الرضوان، ورآهم يتبركون بها ويصلون حولها رأى أنه لا حلّ لهذه البدعة إلا قلعها من أساسها، فاجتث الشجرة واقتلعها من مكانها، فأزال الله بذلك عن المسلمين شرًا عظيمًا.
وفعله هو غاية الحكمة؛ فإن التبرك بالآثار وتعظيمها سببٌ لشرور كثيرة وبدع عظيمة ابتُلي بها المسلمون، ولا أدل على ذلك مما يحصل عند مقام إبراهيم وزمزم من التمسح بأشياء لم يرد السنة بالتمسح بها ولا التبرك بها كحديد المقام وأعواد المنبر، وما ذلك إلا للجهل الذريع الذي يعيشه المسلمون. ثم انتقِل إلى المسجد النبوي تجد الناس أكوامًا عند قبره يحاولون جهدهم أن يظفروا بمسحة أو التزام، هذا مع ما يرددونه من التوسّلات الشركية والعبارات البدعية، يفعلون ذلك خفيةً خوفًا من رجال الأمن والحسبة.
ثم اخرج من الحرم تجد طائفة من أهل البدع يدعون الناس إلى زيارة الآثار والمساجد القديمة والتعبد فيها والتبرك بها، وهذا كله من الباطل ومما اخترعته عقول أهل الخرافة، فليس للمساجد السبعة ولا لمسجد الغمامة ولا القبلتين، ليس لتلك المساجد مزية على غيرها، بل شأنها شأن غيرها من مساجد المسلمين. سُئل ابن كنانة عن الآثار التي بالمدينة فقال: أثبتُ ما عندنا في ذلك قباء، إلا أن مالكًا كان يكره مجيئها خوفًا من أن تتّخذ سنة.
وكلما كثر الجهل في الأمة فشت البدع وازدادت ووجد أصحابها متنفسًا لبثِّ بدعهم وخرافاتهم، ذلك أن الأمة المتعلمة لا تقبل ما جاءها إلا بدليل وحجة وبرهان. إذن فدواء البدع نشرُ العلم بين الناس حتى لا يقبلوا إلا الحق والصواب.
وفي هذا العصر ونتيجةً لبعد الأمة عن دينها واشتداد الجهل فيها انتشرت البدع في بلدان المسلمين، فأصبح كثير منهم يعتقدون في القبور، يدعون أصحابها ويطوفون حولها ويقدِّمون عندها الهدايا ويذبحون القرابين، وهذا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام لا يقبل الله من صاحبه صرفًا ولا عدلاً. واعتقد كثير من الناس في الأنبياء والأولياء والصالحين حتى إن الرافضة ـ تلك الفرقة الضالة المارقة ـ ليعتقدون أن أئمتهم معصومون وأنهم أفضل من الأنبياء والمرسلين ومن الملائكة المقربين. وغلت طوائف من المبتدعة في شيوخها حتى سألوهم الحاجات وتفريج الكربات مع أنهم في بطون القبور من الأموات.
وأكبر دليل على انتشار بدعة الغلو في الصالحين ما نسمعه من الغلو في النبيّ الكريم إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين محمد ، فتسمع من يدعوه ويرجوه، وكثيرًا ما تسمع من يحلف به مع أن ذلك شرك بالله تبارك تعالى.
ومما أحدثه الناس الاحتفال بذكرى مولده ، وهذا وإن كان شائعًا كثيرًا في كثير من الأقطار الإسلامية فهو بدعة وضلالة لم يشرعها الله ولا رسوله، ولم يفعلها الصحابة ولا من تبعهم. وكذلك كل الاحتفالات بالأعياد المحدثة فهو من هذا الضرب، سواءً كانت أعيادًا عامة أو أعيادًا خاصة كعيد الميلاد وغيره، كل ذلك من البدع.
فلنطَّرح كل ما لم يأمر به شرعنا؛ ففي الشرع غُنية عن ابتداع المبتدعين وضلال المخرفين، ولو أن المسلمين تمسكوا بعقيدتهم وسألوا أهل العلم فيهم عن كل ما يجدّ ويحدث لما انتشرت البدع ولما راجت الخرافات.
فاحذر ـ يا عبد الله ـ أن تكون مخترعًا لبدعة أو داعية إليها أو محافظًا عليها؛ فإنك بذلك تسهم في هدم الإسلام وإحلال مظاهر الشرك والخرافة.
أسأل الله الكريم أن يطهر بلادنا من البدع والشرك، وأن يزيل عن بلاد المسلمين كافة ما بها من الفساد والشر، إنه جواد كريم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|