ثم أما بعد: فيا معاشر المؤمنين، فإن تأريخ هذه الأمة حافل بالإنجازات، مليء بالتضحيات، سطر بين صفحاته أجمل الانتصارات، ودوّن بين جنباته أروع البطولات، وذلك حينما كان المسلمون في أوج قوتهم وعنفوان شكيمتهم وذروة وحدتهم، فنتج عن ذلك التاريخ الناصع الذي يعرفه القاصي والداني والبر والفاجر، وتولد عن هذه المعرفة بتاريخ الإسلام والمسلمين سمعة قوية لأمة الإسلام، ونجم عنها هيبة لم يُر لها مثيل لدى أعدائها من الكافرين والمنافقين، فإذا أرادها أعداؤها بسوء أو تآمروا عليها بشر حسبوا لذلك ألف حساب، وقدموا خطوة وأخروا أخرى، وترددوا كثيرا؛ خوفا من بطش المسلمين، وخوفا من العواقب الوخيمة والنتائج المريرة التي تترتب على أي حماقة يرتكبونها أو يقعون فيها.
أما اليوم فإنه مع الأسف الشديد قد تنازلت الأمة عن ريادتها، وسلمت قيادها لغيرها، ونزع الله مهابتها من قلوب أعدائها، فماذا تنظرون من أمة هذه حالها؟! وماذا تتوقعون من شعوب هذا شأنها؟! مليار وخمسمائة مليون، ولكنهم مع هذه الكثرة غثاء كثغاء السيل، شخّص لنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه هذه الحالة التي وصلت إليها الأمة تشخيصا دقيقا، ووصفها لنا وصفا جليا، ففي سنن أبي داود من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي قال: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهيةُ الموت)).
وقد تحقق فينا اليوم ما أخبر به رسول الله في هذا الحديث، وحتى نرى ونعلم الفرق بين مواقف الأمة فيما مضى من الزمان ومواقفها اليوم تجاه قضاياها المصيرية، وما يستجد في حياتها مع أعدائها، وما يظهر بين يديها من أحداث تستدعي وقفتها الصادقة لنصرة المظلومين والدفاع عن المضطهدين ورد كيد المعتدين، حتى نرى هذا وذاك علينا أن نرجع إلى الوراء قليلا، ونقرأ شيئا من صفحات تاريخ هذه الأمة.
أمة الإسلام والعقيدة، أقدم بين أيديكم بعضا من المواقف المشرفة، وشيئا من الملاحم البطولية التي جرت أحداثها على أرض الواقع لا الخيال، في أوقات مختلفة وعصور متباينة، ونبدؤها بالصدر الأول من الإسلام على عهد رسول الله :
يروى أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ تريد شراء شيء، فجعل اليهود يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت: يا للمسلمين، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، وكان هذا الحادث سببا في حصار النبي لبني قينقاع حتى نزلوا على حكمه صلوات الله وسلامه عليه.
وفي يوم من الأيام إبان خلافة المعتصم تستغيث امرأة من عمورية بالمعتصم، حينما سباها بعض جنود الروم، فصاحت: وا معتصماه، فلما بلغ ذلك المعتصم لم ينتظر عقد قمة طارئة، ولم ييمم وجهه إلى هيئة الأمم، ومجلس الخوف واللّمم، بل هب من فوره لنجدتها، وسارع من وقته لنصرتها، فجهز جيشا عرمرما، يروى أن أوله عند الروم وآخره في ديار المسلمين، وسار إلى عمورية، والتقى هناك جيش الروم، وفك أسر تلك المرأة، وأدب الروم. فلا عدمت الأمة من أمثال المعتصم وجيشه.
أخي الحبيب، كم من المسلمين اليوم يستغيث ولا مجيب؟! ليست امرأة واحدة ولا امرأتين، بل نساء وأطفال وشيوخ، بل شعب بكامله يستغيث اليوم في غزة ولا مجيب، يستصرخون الأمة ولا صارخ، يستنصرون ولا ناصر، يا للعار والشنار! بل يا فضيحتاه! ويا سوأتاه! أمة تعدادها مليار وخمسمائة مليون يباد المسلمون في غزة أمام أعينهم ولا يتحركون لنصرتهم، يقتل الأطفال ويحرقون بالقنابل الحارقة على مرأى ومسمع منهم ولا يسارعون في نجدتهم، لكنه ما أخبر به رسول الله بقوله: ((غثاء كغثاء السيل)).
ربّ وا معتصمـاه انطلقت ملء أفواه الصبايـا اليتـم
لامست أسمـاعهم لكنهـا لَم تلامـس نخوةَ المعتصـم
أمتي كـم صنـم مجددتـه لم يكن يَحمل طهر الصنـم
لا يلام الذئب فِي عدوانـه إن يك الراعي عدوَّ الغنـم
فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيدُ الدرهم
وفي الأندلس الخضراء، ديار المسلمين المسلوبة اليوم، كان أحد الشعراء واسمه العباس يسير في واد يسمى وادي الحجارة، فسمع امرأة تقول: وا غوثاه بك يا حكم، لقد أهملتنا حتى تكلّب العدو علينا، فأيمنا وأيتمنا، فسألها عن شأنها، فقالت: كنت مقبلة من البادية في رفقة لي، فخرجت علينا خيل العدو، فقتلت وأسرت، فنظم هذا الشاعر من فوره قصيدة، قال فيها:
تململت في وادي الحجـارة مسهرا أراعي نُجومـا ما يردن تغـوّرا
إليـك أبا العاصي نضيـت مطيتي تسير بِهم سـاريـا و مهجـرا
تـدارك نسـاء العالَمين بنصـرة فإنك أحـرى أن تغيث وتنصرا
ثم حمل تلك القصيدة، وذهب بها من وقته، حتى جاء إلى والي المسلمين في ذلك الوقت، وكان الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، ثم قرأها عليه، فلما سمعها الحكم نادى من حينه بالجهاد، فخرج بعد ثلاثة أيام إلى وادي الحجارة، وأخذ معه الشاعر ليدله على المكان، فلما وصل إلى هناك سأل عن الخيل التي أغارت على تلك المرأة ومن معها، فأخبر بذلك، فغزا تلك الناحية، وفتح حصونها، وخرب دورها، وأحضر المرأة التي استغاثت وجميع من كان في الأسر، وقال للشاعر: سلها: هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة: والله وشفى الصدور، وأنكى العدو، وأغاث الملهوف، فأغاثه الله، وأعز نفره.
والسؤال المطروح على أمتنا اليوم: ماذا سيقول نساء غزة وأطفال غزة لأصحاب القرار في أمتنا؟! هل سيقلن كما قالت تلك المرأة للحكم حينما فك أسرها وأشفى في العدو غليلها، أم أنهن وهو المؤكد للأمة جمعاء: ضيعتمونا ضيعكم الله، أسلمتمونا لأعدائنا لا سامحكم الله، تركتمونا نواجه مصيرنا المحتوم على يد عدونا؟! فحسبنا الله ونعم الوكيل. ومما لا شك ولا ريب فيه أن التاريخ سيدون ويسجل مقولة نساء غزة، فإما أن تكون مدحا لنا أو ذما علينا نعير به على مدى التاريخ.
جعلني الله وإياكم ممن نصر المظلوم، ونافح عن حقوق المستضعفين.
أقول هذا...
|