ثم أما بعد: فيا معاشر المؤمنين، منذ أكثر من واحد وستين سنة وجراح المسلمين تنزف ولا تتوقف، وآلامهم من كثرتها لا تبرح، وهوانهم في أعين أعدائهم لا يتبدل، وضعفهم أصبح يضرب به المثل.
ولما انسلخ العالم من إنسانيته، وأصبح يعيش في غابة لا مكان فيها إلا للقوة، وفي ظل غياب الضمير الإنساني المنصف، وانعدام الشعور بالجسد الواحد والأخوة الإيمانية الصادقة بين المسلمين، في ظل هذا وذاك انتفخ أحفاد القردة والخنازير، وتطاول مجموعة من الوحوش الضارية طرِدوا من أماكن كثيرة من العالم، وأريدَ لهم أن يكونوا شوكة في حلوق المسلمين، وخنجرا في ظهورهم، وسيفا مسلطا على رؤوسهم، جيء بهم إلى بلاد المسلمين ليكونوا أداة تنفيذ لقوى الشر في الغرب، فما كان من هذه الشرذمة القليلة والحال كذلك إلا أن كونت عصابة إجرام تقتل من تشاء، متى تشاء، في أي مكان تشاء، حتى أصبح لهذه العصابة وتلك الشرذمة صولة وجولة وقوة مادية تفوق قوة العالم الإسلامي مجتمعة، فاغتروا بتلك القوة المادية، وازداد غرورهم بعد أن وجد هؤلاء العصابة الدعم اللامحدود من قبل الدول ذات الأطماع والمصالح الشرق أوسطية، ونتيجة لتلك العوامل مجتمعة لم يكتف اليهود باحتلال الأرض وسلبها من أصحابها في وضح النهار بغير وجه حق وإبعاد أهلها منها بغية العيش في هناء وسلام، لم يكتفوا بذلك فحسب، بل بلغ بهم الحال نتيجة فساد الطوية وخبث النية والحسد على البرية أن أصبحوا كالكلب المسعور، لا يقرّ لهم قرار ولا يهدأ لهم حال حتى يسفكوا دماء الأبرياء، وتتناثر أمامهم الأشلاء، ويبيدوا الخضراء، ويتعمدوا إهانة العرب وأهل الإسلام وإذلالهم أمام الرأي العام، والعالم يصفق لهم بكل اقتدار، وينعتهم بالأبطال. وهذه كلها حقائق يجب أن يعرفها ويعقلها المستسلمون، الذين يلهثون خلف سراب السلام مع اليهود.
نعم معاشر الأحبة، هؤلاء هم اليهود، وهذه جرائمهم التي لا تعدّ من كثرتها منذ أن وطئت أقدامهم أرض فلسطين، ولا أجد وصفا لليهود أدق من وصف الله تعالى لهم في محكم القرآن، فقد وصفهم بالقتلة في جملة ما وصفهم به تبارك وتعالى، وهذا يدلنا دلالة قاطعة أن هؤلاء القوم متعطشون لسفك الدماء، مهووسون بقتل الأبرياء، كارهون للسلام، حاقدون على أهل الإسلام، قال الله تعالى عنهم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران: 181]، ووصفهم المولى جل وعلا بأنهم شديدو العداوة والبغض للمؤمنين، قد تغلغلت هذه العداوة إلى سويداء قلوبهم، وتشربتها نفوسهم، واستمرأتها عقولهم، حتى أصبح ذلك ديدنهم، وأصبحت صفة ملازمة لهم، قال الله تعالى مبينا هذه العداوة: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82].
كل هذه الصفات وغيرها مما اتصف به اليهود تجعلنا نتوقع مثل هذه المجزرة التي نفذها اليهود خلال الأيام الماضية على أهل غزة العزّل، والتي لا زالت قائمة تحصد أرواح الأطفال والنساء والشيوخ، دون أن تحرك مشاعر ساسة الغرب، وأذناب وأعوان الغرب، الذين أعطوا الضوء الأخضر المسبق لهؤلاء العصابة المجرمة، وذلك بارتكاب إبادة جماعية لأهل غزة.
أمة الإسلام والعقيدة، ما جرى ويجري على أرض غزة أمر يتوقعه كل من له أدنى معرفة باليهود، يتوقعه كل من يعرف أهداف اليهود الإستراتيجية والعسكرية، يتوقعه كل من يعرف سياسة التركيع والإذلال التي ينتهجها ويمارسها اليهود على الشعب الفلسطيني منذ العام 1948م، مع التأييد التام والمطلق لها من قبل ساسة الغرب، والتي تتعارض تماما مع ميثاق الأمم الملحدة وقوانين مجلس اللّمَم، لكنها سياسة القطب الواحد، وحينما تيقّن اليهود أن أحدا لن يسألهم أو يحاسبهم على جرائمهم البشعة، وحينما لم تنجح سياسة التركيع والإذلال التي انتهجها اليهود مع أهل غزة من خلال الحصار الجائر والظالم الذي طال الصغار قبل الكبار، واكتوى بناره البريء قبل المتهم، وأودَى بحياة الكثيرين، واستمر هذا الحصار مضروبا على أهل غزة أكثر من حولين كاملين، تحت مرأى ومسمع العالم كله، وقوبل هذا الفعل بالسكوت المطبق من قبل كثير من عقلاء الغرب والشرق، وقد ذكرنا هذا الحصار الظالم بحصار قريش للنبيّ ومن معه في الشعب لمدة ثلاث سنين، إلا أنه وجد في قريش بعض العقلاء الذين لم يرضوا بهذا الحصار، فعملوا على فكه وإبطاله، أما اليوم فإنه لا يوجد عقلاء، ولا حتى أنصاف عقلاء، وإنما وجد الطامع والظالم والشامت، ولما كان من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير أن الجزاء من جنس العمل عاقبهم الله تعالى بجنس ما كانوا يفعلون بأهل غزة، فحلّ باقتصادهم ما لا يخفى عليكم، ليذيقهم الله بعض ما كسبوا، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون. وما يدريك ـ أخي ـ أن دعوة مظلوم من أهل غزة، قد يكون شيخا كبيرا أو أمّا ثكلى يتضاغى صغارها بين يديها من الجوع، لا تجد كسرة من الخبز لتطعمهم، ولا شربة ماء لتروي عطشهم، فرفعت يديها إلى خالقها، رفعت يديها إلى الملك، رفعت يديها إلى الجبار، رفعت يديها ودموعها تتحدّر على خديها، أن ينتقم الله ممن فرض عليهم هذا الحصار وأعان عليه ورضي به، فسرَت تلك الدعوات بليل حتى بلغت عنان السماء، فاستجاب الله لها، فأحلّ بالعالم من النكبات الاقتصادية ما نراه ونسمعه اليوم.
إخوة الإيمان والعقيدة، حينما لم تفلح هذه السياسة الظالمة والجائرة مع هذا الشعب الجبار، ولم يستطيعوا بحصارهم المحكم وآلتهم العسكرية تركيع هذا الشعب الصابر، ولم يفلحوا في فلّ عزيمته قرروا بعد حصولهم على الضوء الأخضر والإذن المسبق من قبل أصحاب القرار في الغرب وبعض المنهزمين من بني يعرب وبعض العملاء والخونة من الفلسطينيين، قرر اليهود قتلة الأنبياء وسفاكو الدماء أن يشنوا حرب إبادة شاملة على أهل غزة العزّل، الذين لا يجدون ما يسدون به رمق جوعهم، فضلا أن يجدوا سلاحا يدافعون به عن نفوسهم، فباغتهم العدو على حين غرة، فقتل من قتل من الأطفال والنساء والشيوخ، ودمر معظم البِنى التحتية لغزة، وحتى دور العبادة الممتلئة بالمصلين، والمستشفيات المكتظة بالمرضى والجرحى، والمدارس والجامعات التي يقصدها الطلاب والطالبات لم تسلم هي الأخرى من صواريخ وقنابل اليهود، على الرغم من أن القوانين الدولية والمواثيق الأممية تحرم وتجرّم المساس بدور العبادة والمستشفيات والمدارس، لكنها مع الأسف الشديد أنظمة وقوانين ومواثيق لا تعمل إلا إذا كان الأمر يتعلق بأصحاب العيون الزرقاء من بني جلدتهم، ولا تزال الغارات الجوية والمدافع الأرضية تقصف غزة حتى هذه اللحظة، تستهدف العزل من الأبرياء، والعالم يتفرج على هذه المسرحية المضحكة، ويطبل لها، ويشيد بأبطالها، وفي أسوأ الحالات يبرر ويلتمس الأعذار لمن قام بها.
وبقدر ما آلمنا ما جرى ويجري لأهل غزة من الإبادة الجماعية بالآلة العسكرية الصهيونية إلا أنني على يقين تام أن الله جل وعلا وهو القادر على كل شيء سينتقم عاجلا غير آجل ممن مارس هذا الظلم والعدوان على أهل غزة، وأعان عليه، ورضي به، وما ذلك على الله بعزيز، وهو الوعد الذي وعد الله به في محكم كتابه، ووعد الله لا يخلف، ونصره لا يتخلّف، فقد أخبرنا بذلك في محكم كتابه فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39].
إخوة الإيمان والعقيدة، هذه هتافات مؤلمة وموجعة ومحزنة لكلّ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، جرت على ألسنة الشيوخ الركع والأطفال الرضع والنساء الرمل من أهل غزة، يصفون شيئا يسيرا مما حلّ بهم من البلاء، ويشتكون ما وقع عليهم من الظلم والعدوان، أقدم هذه الهتافات بين أيديكم؛ عسى هتافاتهم ونداءاتهم تبلغ الآفاق وتطرق الآذان، فيستفيق العالم من عنصريته، ويتخلص من ظلمه وجوره، فيقف بجوارهم، ويسترجع لهم حقوقهم المسلوبة، ويمنحهم الأمن والأمان والسلم والسلام، تقول هذه الهتافات:
دهم الـردى فارتَجّـتِ الآفـاق وتكاثرت في جيـدها الأطواقُ
والليـل يغشـى حالكـا بسواده والعين تبكي والدمـاءُ تُـراق
فيهـا يَمـوت الناس فِي أوطانِهم سيان فيـها الأسر والإطـلاق
سيان من يلقـى المنيةَ فِي الحمـى إذ للشهـادة جولـة وسبـاق
أومَن يلاقي المـوت دون غذائـه أو فِي المشـافي فالمنـون دهاقُ
يا أمتي أين الرجولـة فِي الوغـى ألدَى الْمنيـة ينفع الإشفـاقُ؟
فِي غـزة الإسـلام يذبح أهلنـا فكأنهـا فِي الْحـادثات عراق!
عـاث اليهـود بأهلهـا ذبحا فلا عهدٌ لَهـم فيهـا ولا ميثـاق!
قصـف وتشريـد وإبعـاد بهـا دمُنا يسيـل على الثرى ويراق!
سدت دروب العيش في جنباتِهـا وتقطعـت في سوقهـا الأرزاق
فغدت صريـعة حقدهم وضلالهم فإلام يبقـى الصمت والإطراق
وإلام نبقـى صـامتيـن يجرنـا للعيـن وكالنـعـاج نسـاق!
وإلَى الْخديعة والسراب مسـارنا وإلَى اتفـاق بعده استحقـاق!
يـا أمـة المليـار أيـن رجـالنا بكتـائب حنت لَهـا الآفـاق
يـا أمـة المليـار إن دمـاءنـا لعنـاتُهـا للخـانعين تسـاق
هيـا فهبـوا يـا جُمـوع أعزة مـن غيْر عز لا حياة تطـاق!
صبر وإيمـان ودعـوة خـالـق ومـدادهـا قلب لكم رقراق
جعلني الله وإياكم ممن ناصر الحق وأظهره، ودفع الظلم وأبطله، أقول قولي...
|