أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأقيموا له دينكم، واتبعوا هدي نبيكم، فلقد كُفيتم الاصطفاء والتشريع، وأمرتم بالامتثال والتطبيق، شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشُّورى: 13].
أيها الناس، اختار الله تعالى لتبليغ رسالته أكمل الناس وأحسنهم، فاصطفاهم لذلك، وجعلهم أمناء على وحيه، دعاة لدينه، هداة لخلقه، إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ [آل عمران: 33]. حباهم ربهم سبحانه من الكمال البشري ما لم ينله غيرهم، وفيهم من الصفات الحسنة ما لم يكن في سواهم؛ فهم عليهم السلام أرحم الناس وأشجعهم وأصبرهم وأحلمهم وأصدقهم وأكرمهم، وخاتمهم محمد كان أحسنهم خلقا وأكملهم وصفا، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، قالت عائشة رضي الله عنها: كان خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. رواه أحمد.
والشجاعة خلق عظيم، يدّعيها أكثر الناس لأنفسهم، ولا تثبُت إلا في القليل منهم، عدَّها الحكماء عمادَ الفضائل ورأسَ المكارم؛ إذ جعلوا أصلَ الخير كله في ثبات القلب ورباطة الجأش، حتى قال بعض العلماء: إن كل كريهة تُرفع أو مكرمة تُكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة.
وأنبياء الله تعالى هم أشجَع الناس، وإلا فكيف واجهوا أقوامهم فيما أَلِفُوا، وقارعوهم بما أشركوا، ولم يَنكُلوا عن دعوتهم أو يتزحزحوا، مع ما نالهم من العذاب والأذى فمنهم من ضرِبوا، ومنهم من جرِحوا، ومنهم من قتِلوا، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم بسبب دعوتهم.
لقد واجه نوح عليه السلام قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك، وكسر الخليل عليه السلام أصنام قومه، فأضرموا النار أمامه ليقذفوه فيها، فما وهنت عزيمته، ولا رجع عن دعوته، ولا وافق قومه، فقذفوه في نارهم وهو ثابت القلب رابط الجأش قوي العزيمة. ووقف موسى عليه السلام أمام أعتى طاغية في البشر، فلم يتلجلج في كلامه، ولا تردد في دعوته، بل صدع بالحق أمامه، وقذف إليه برهانه، وأطال مناظرته، وخصمه في محاجته. ومن يقدر على المثول أمام الطغاة إلا قلائل الرجال وأفذاذ الشجعان؟! فصلوات الله تعالى وسلامه على نوح وإبراهيم وموسى وسائر المرسلين والنبيين، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللهَ [الأحزاب: 39].
وأما نبينا محمد فقد أوتي من الشجاعة أعلاها، ومن النجدة أوفاها، وكان فيه من ثبات القلب ما لم يكن في غيره، حتى قال : ((لا تَجِدُونِي بَخِيلاً ولا كَذُوبًا ولا جَبَانًا)) رواه البخاري. صعد على الصفا ونادى قريشا بطنا بطنًا حتى اجتمعوا، فصدع بما أُمر أمامهم، وقذف بالحق باطلهم، وكان وحده وأهل مكّة ضدَّه، ومن آمن معه لا يقدرون على نصرته، فما أشجعه! وما أشدَّ بأسه! وما أعظم جرأته!
ولما أسرى به ربه عز وجل وعرج به إلى السموات لم يستر هذه الحادثة العظيمة عن الناس، بل قذف بها بينهم غير هيَّابٍ منهم، ولا آبهٍ بتكذيبهم وسخريتهم، فارتدَّ أناس بسببها، ولكن أبا بكر صدقها، ومن يومها سمي الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
لقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه لصيقا بالنبي ، ومن أعلم الصحابة بأوصافه وأحواله؛ لأنه لازمه في الخدمة عشر سنوات، فيصفه أنس رضي الله عنه بأنه أشجع الناس، ويذكر حادثة غريبة تدلّ على ذلك، فيقول رضي الله عنه: كان رسول الله أَحْسَنَ الناس، وكان أَجْوَدَ الناس، وكان أَشْجَعَ الناس، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رسول الله رَاجِعًا وقد سَبَقَهُمْ إلى الصَّوْتِ وهو على فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ في عُنُقِهِ السَّيْفُ، وهو يقول: ((لم تُرَاعُوا، لم تُرَاعُوا))، وفي رواية: فَزِعَ الناس فَرَكِبَ رسول الله فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا، ثُمَّ خَرَجَ يَرْكُضُ وَحْدَهُ، فَرَكِبَ الناس يَرْكُضُونَ خَلْفَهُ، فقال: ((لم تُرَاعُوا)) رواه الشيخان.
وهذا أبلغ ما يكون شجاعة؛ إذ سبق الناس إلى مصدر الصوت وحده، شاهرا سيفه، ولم ينتظر أحدا يرافقه، بل لم يصبر حتى يُسرَج له الفرس، وركبه عُرْيًا بلا سرج.
يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: "وأما الشجاعة والنجدة فكان منهما بالمكان الذي لا يُجهل، قد حضر المواقف الصعبة، وفرَّ الكماة والأبطال عنه غيرَ مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرّة وحفظت عنه جولة سواه " اهـ.
ودلّت المواقف الكثيرة في غزواته على شجاعته ؛ إذ كان الصحابة رضي الله عنهم إذا اشتدّ البأس يلوذون به، وهو تلقاء أعدائه، ثابت في مكانه، قال عَليٌّ رضي الله عنه: لقد رَأَيْتُنَا يوم بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ الله ، وهو أَقْرَبُنَا إلى الْعَدُوِّ، وكان من أَشَدِّ الناس يَوْمَئِذٍ بَأْسًا. وفي رواية: كنّا إذا احْمَرَّ الْبَأْسُ ولقيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ الله ، فما يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى من الْقَوْمِ منه. رواه أحمد.
وفي أحدٍ لما انهزم الناس ثبتَ في نفر قليل من أصحابه رضي الله عنهم، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لما جال الناس عن رسول الله تلك الجولة يوم أحد تنحيت فقلت: أذود عن نفسي، فإما أن أستشهد وإما أن أنجوَ حتى ألقى رسولَ الله ، فبينا أنا كذلك إذا برجل مُخَمِّرٍ وجهَه ما أدري من هو! فأقبل المشركون حتى قلت: قد ركبوه، ملأ يده من الحصى، ثم رمى به في وجوههم، فنكبوا على أعقابهم القهقرى حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا، ولا أدري من هو! وبيني وبينه المقداد بن الأسود، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه إذ قال المقداد: يا سعد، هذا رسول الله يدعوك، فقلت: وأين هو؟ فأشار لي المقداد إليه، فقمت ولكأنه لم يصبني شيء من الأذى، فقال رسول الله : ((أينَ كنت اليوم يا سعد؟)) فقلت: حيث رأيت رسول الله، فأجلسني أمامه فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوك، ورسول الله يقول: ((اللهم استجب لسعد، اللهم سدد لسعد رميته، إيها سعد فداك أبي وأمي))، فما من سهم أرمي به إلا وقال رسول الله : ((اللهم سدد رميته وأجب دعوته)). قال الزهري رحمه الله تعالى: إن السهام التي رمى بها سعد يومئذ كانت ألف سهم. رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
ولما جرح النبيّ وطمع في قتله أبيُّ بن خلف وأقبل عليه مقسما أنه سيقتله، وأراد بعض الصحابة البروز إليه قال رسول الله : ((دعوه))، فلما دنا تناول رسول الله الحربة، قال الراوي: فانتفض بها انتفاضة تطايرنا بها تطاير الشَّعْرَاءِ ـ والشَّعْرَاءُ ذباب صغير له لدغ ـ عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها. وإنما تطاير الصحابة رضي الله عنهم من شدة شجاعته وجرأته .
وفي غزوة حنين حين انهزم الناس وولوا ثبت رسول الله في مكانه، وقابل المشركين وحده، سئل البراء رضي الله عنه: أَوَلَّيْتُمْ يوم حُنَيْنٍ؟ فقال: أَمَّا رسول الله فلم يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ، كان أبو سُفْيَانَ بن الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فلما غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يقول: ((أنا النبيّ لا كَذِبْ، أنا بن عبد الْمُطَّلِبْ))، قال البراء رضي الله عنه: فما رُئِيَ من الناس يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ منه. وفي رواية قال: كنا والله إذا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النبي . رواه الشيخان.
وهذه غاية الشجاعة والإقدام؛ إذ كان في ساحة الوغى على بغلة لا تصلح للكرّ ولا للفرّ، ويسيّرها باتجاه المشركين وهو يرتجز، ويفصح عن نفسه مع علمه بأنه غاية المشركين وهدفهم، ومن عادة القادة إذا انهزمت جيوشهم الفرار أو الاختفاء إلا رسول الله ، فإنه صاح بالناس حتى آبوا إليه، فكتب الله تعالى لهم النصر بعد الهزيمة، وكان هو وأصحابه رضي الله عنهم من أولى الناس بوصف الله تعالى في قوله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|