أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعبدوه واشكرُوا له، واذكروا أنَّكم مُلاقوه، فأعِدُّوا لهذا اللِّقاء عُدَّته، وخُذوا له أُهبَتَه، ولا تغُرَّنكم الحياةُ الدنيا، ولا يغُرَّنَّكم بالله الغرور.
أيُّها المسلمون، إنَّ آثارَ الإيمان الصادقِ بالله تعالى وآثارَ العمل الصالح الذي يُبتغَى به وَجهُه ويُقتَدى فيهِ بنبيِّه صَلواتُ الله وسَلامُه عليه تربو عَلَى العدِّ، وتجِلُّ عن الحصرِ، وإنها آثارٌ لا تُغمَضُ عنها أجفانُ أولي الألباب، ولا تَغيبُ عن مدارك أولي النُّهَى، ولا تَعزُبُ عن نَظَر وتفكُّرِ أولي الأبصار.
وإنَّ من حلو ثمار الإيمانِ ما يغرِسُه الله لأهلِه في قلوب خَلقِه من محبَّةٍ لا يملكون ردَّها، ومودَّةٍ لا يستطيعون إلاَّ الإقرارَ بها والخضوعَ لسلطانها، أوضَحَ ذلك سبحانه في محكمِ كتابه بقوله عزَّ اسمُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96].
وإنَّ أعظمَ ما في هذا الوُدِّ ـ يا عبادَ الله ـ أنه آية بيِّنة ودليلٌ ظاهرٌ على حبِّ الله تعالى، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحَيهما واللفظُ لمسلم رحمه الله عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسول الله أنَّه قال: ((إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعَا جبريلَ عليه السلام فقال: إني أحبُّ فُلانًا فأحِبَّه))، قال: ((فيُحبُّه جبريل، ثم يُنادي في السماء فيقول: إن الله يحبّ فلانًا فأحِبُّوه، فيُحبُّه أهل السماء))، قال: ((ثم يُوضَعُ له القَبول في الأرض)) الحديث. فلا ترى في الناس إلا محبًّا له، مُثنِيًا عليه، رؤوفًا رحيمًا به، عبَّر عن هذا أبلَغَ تعبير التابعيُّ الجليل زيدُ بنُ أسلَمَ رحمه الله بقوله: "من اتَّقى الله أحبَّه الناسُ وإن كرِهوا" ؛ يُريد أنَّ الناس لا يملكون إلاَّ أن يُحبُّوه، ولو أرادوا استشعارَ البُغض له ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
فانظر إلى الإيمانِ والتَّقوى كيف أعقَبَا صاحبَهما في قلوب الناس حبًّا لم يعمَل له، ولم يسعَ إِليه، ولم يخطُر له على بال.
ولا عَجَب في ذلك؛ فقد بلغ الإيمانُ والتقوى بأهلهما مرتبة الولايةِ، فاستحقّوا صفةَ أولياء الله الذين بشَّرَهم ربُّهم بأنهم لا يخافون ما يستقبلون من أهوال يوم القيامة، ولا يحزَنون على ما تركوا من خَلفِهم في الحياة الدنيا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون [يونس: 62، 63].
وَلم يقتَصِر الأمرُ على هذا، بل إنهم بلَغوا بحبِّ الله لهم وكريم مقامِهم عنده أن جعَل من ناصَبَهم العداءَ بمنزلة المحارِبِ له سبحانه، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّه قال: قالَ رسولُ الله : ((إنَّ الله تعالى قال: مَن عَادَى لي وَليًّا فقد آذَنْتُهُ بِالحرب)) الحديث، ومعناه: أي: أعمل به مَا يعمَلُه العدو المحارب، وآذنْتُهُ أي: أعلمتُهُ. والمراد: أنه تعرَّضَ لإهلاك اللهِ إيّاه، وفي هِذا ـ كما قال أهل العلم بالحديث ـ تهديدٌ شديدٌ؛ لأن من حاربه الله أهلكَه.
وإذا ثَبَت هذا في جانبِ المعاداة ثبت في جانب الموالاة أَيضًا، فمَن والى أولياءَ الله أكرَمه الله، ورضِيَ عنه، وهداه، واجتباه.
وإنَّ من أعظم من تجب موالاتُه والحذرُ الشديدُ مِن معاداته صحابةَ رسولِ الله الذين رضِي الله عنهم، وأفاض سبحانه في الثناءِ عليهم في محكَمِ كِتابه، فقال عزَّ من قائل: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم [التوبة: 100]، وقال عزَّ وجلَّ: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا الآية [الفتح: 29]، وقال سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18].
ونهى رسولُ اللهِ عَن سَبِّ أحدٍ مِنهم، وَبيَّن أنَّه لا يبلُغُ أَحدٌ مبلَغَهم في الجلالةِ والفَضلِ ولو أنفَقَ مَا أنفَقَ من مالِه، فقالَ عليه الصلاةُ والسلام: ((لا تسُبُّوا أحدًا مِن أَصحابي، فلَو أنَّ أحدَكم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه)) أخرجه البخاريّ ومسلم في صحيحَيهما من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.
وبيَّن أنَّ حبَّ الأنصارِ مِن علامات الإيمان الصّادق، وأنَّ بُغضَهُم من علاماتِ النّفاق، ففي صحيحَي البخاريّ ومسلم رحمهما الله عن أنَسِ بنِ مالك رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((آيةُ الإيمان حُبُّ الأنصار، وآيَة النفاقِ بُغضُ الأنصارِ)). وأخرَجَ الشيخان في صحيحَيهما عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنّه قال: سمعتُ النبيَّ يقول: ((الأنصارُ لا يحبُّهم إلا مؤمِن، ولا يُبغِضهم إلا منافقٌ، فمَن أحبَّهم أَحبَّهُ الله، ومن أبغَضَهم أبغَضَه الله)).
ولِذا كانت محبَّةُ أصحابِ رسول الله من أصولِ مُعتَقَد أهل السنّة والجماعة التي لا خلافَ بينهم فيها، قال الإمام أبو جعفَر الطحاويّ رحمه الله مُعبِّرًا عن ذَلك: "ونُحِبّ أصحابَ رسول الله ، ولا نُفرِطُ في حبِّ أحدٍ منهم ـ أي: نُبالغ ونُغالي ـ، ولا نتبرَّأ من أحدٍ منهم، نُبغِضُ من يبغضُهم وبغيرِ الحقِّ يذكرهم، ولا نذكُرهم إلا بخير، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبُغضُهم كفر ونِفاق وطُغيانٌ" انتهى كلامه رحمه الله.
وإنما كان حبُّهم ـ يا عبادَ الله ـ دينًا وإيمانًا وإحسانًا لأنه امتثالٌ لأمرِ الله، وطاعةٌ له، وتقديمٌ لأمرِه ونهيِهِ سبحانه على كلِّ ما سواهما، ولأنهم نصَروا دينَ الله، وجاهَدوا معَ رَسوله ، وبذَلوا في ذلك الدماء والأموال والأرواحَ، وما أحسَن مَوقفَ المسلم الصادقِ من هؤلاء الأسلاف العِظام، ذلك الموقفُ الذي صوَّره القرآن أبلغ تصويرٍ في قولِ ربِّنا تقدَّست أَسماؤه: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم [الحشر: 10].
نفعني الله وإياكم بهديِ كتابِه، وبسنّة نبيِّه . أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
|