أيها الإخوة المؤمنون، لا ينقطع الثناء والشكر على من قدّم الخير للناس، ولا يتوقف التوقير والاحترام في النفس ومشاعرها تجاه أولئك النفر الذين وهَبُوا أنفسهم وأموالهم لتبليغ الدين ورسالة رب العالمين للناس، وصبروا على الأذى والتعذيب، وعلى رأس هؤلاء وأعظمهم سيد الأولين والآخرين نبينا محمد الذي أرسله الله على حين فترة من الرسل، وأتى بالنور معه والناس أحوج ما يكونون إليه، وأتى بالهدى والناس أشد ما يكونون في الضلالة، أتى بالإيمان والناس أشدّ ما يكونون في الكفر، وأعظم الناس معرفة وإدراكًا لهذا الفضل والمنة هم أصحاب النبي ؛ لأنهم أدركوا مدى الشقاء الذي سيلازمهم لولا بعثة هذا الرسول، فلقد أخرجهم من دركات الظلمات إلى النور التام، فدلهم على طريق الجنة وحذرهم من النار، أخرجهم من عبودية أهوائهم وأصنامهم إلى عبودية رب العالمين.
أحبتي في الله، دعونا نسرح بخيالنا مع الرعيل الأول أصحاب رسول الله ، وكيف كانوا معه، وكيف عرف هؤلاء أن يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ، فارتقوا في درجات العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من العزة والإيمان؛ عسى ولعل أن نسير على ما ساروا عليه، فنحن نشهد مثلهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لكن الفرق بيننا وبينهم كبير، هم أدركوا نعمة بعثته بينهم، وتعمّق في قلوبهم حبّه حتى وصل بهم إلى أن يقتسموا شعره إذا حلقه ويتوضؤوا بفضل وضوئه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدّوا أيديهم في الهواء يتلقّون أثرًا منه ، قال عروة بن مسعود حينما تفاوض مع النبي في عقد صلح الحديبية: والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك، فما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمّد محمّدًا، والله ما يحدون النظر إليه تعظيمًا له، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيدلك بها وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
هؤلاء هم أصحاب رسول الله الذين اصطفاهم الله لصحبة رسوله وخليله ، وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها ويقول: يد مست يد رسول الله . جاء في حديث عبد الله بن مسعود قال: (إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالاته، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ، وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيئ) رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني.
نعم أيها المؤمنون، لقد شهد هؤلاء النفر والصحب الكرام شهدوا الشهادة الحقة بأن محمدًا رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، وأطاعوه واتبعوا النور الذي جاء به، كان الرجل منهم ما إن يخلو بأهله فيذكر أنه يفترق عن حبيبه ورسوله في الآخرة يصيبه الهم والحزن، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي وأحب من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعتَ مع النبيين، وإذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ النبي ، فنزل قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]، ففرح الصحابة بهذه البشرى وازداد فرحهم عندما جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولماَّ يلحق بهم؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((المرء مع من أحب))، ففرحوا كثيرًا بهذا الحديث رواه البخاري.
أيها الناس، لا توجد منة لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم أشياء وأشياء. رئي الإمام أحمد رحمه الله في المنام بعد موته فسُئل عن حاله فقال: "لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوسًا". قال ابن رجب رحمه الله تعليقًا على هذا: "هو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد عليه الصلاة والسلام لكانوا مجوسًا، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان"، وهذه حقيقة كل عاقل يؤيدها؛ لأن أصحاب هذه الديانات والشركيات والأوثان في عصرنا هذا مقتنعون جدًا بها ويدافعون عنها ويظنون أنهم على هدى، بينما هم على ضلالة عياذًا بالله. فالحمد لله على نعمة الإسلام.
إخوة الإسلام، يجب أن تعرفوا أن الله عز وجل فضّل هذه الأمة المحمدية واختصها بكرامات كثيرة في الدنيا والآخرة ليست لغيرها من الأمم، كل ذلك إكرامًا وتشريفًا لنبيها سيد الأولين والآخرين، وإنما نالت هذه الأمة ما نالته من تكريم وتشريف باتباعها لرسول الله والسير على سنته والعمل بشريعته، ومن هذه الخصائص أنها جعلت خير الأمم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أعطيتُ ما لم يعطَ أحدٌ من الأنبياء))، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: ((نصرت بالرعب، وأعطيتُ مفاتيح الأرض، وسميتُ أحمد))، وفي الأثر عند تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: ١٥٤] قال قتادة: "عندما أخذ موسى عليه السلام الألواح قال: رب، إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها، وكان من قبلهم يقرؤون كتابهم نظرًا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئًا ولم يعرفوه، وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئًا لم يعطه أحدًا من الأمم، قال: ربِ اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: ربِ أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم يؤجرون عليها، وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله نارًا فأكلتها، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير، وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم، قال: رب فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد"، واستمر في حديث طويل كلما أتى بذكر خير يقال له: تلك أمة أحمد، إلى أن نبذ موسى عليه السلام الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. وذكر هذا الأثر ابن كثير وابن جرير في التفسير. وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدة أنه سمع النبي يقول في قوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) رواه الترمذي والإمام أحمد وابن ماجه.
فاحمدوا الله ـ أيها الإخوة ـ على هذه النعم التي الناس عنها غافلون إلا من رحم الله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه.
|