أيها الأحبة في الله، حدث حادث كونيّ في بداية هذا الأسبوع، وكثير من الناس لا يعلم به ولا يهتمّ، وهو خسوف القمر.
وخسوف القمر وكسوف الشمس له أسباب طبيعية يُقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يُقر بها المؤمنون وينكرها ويتجاهلها الكافرون وضعيفو الإيمان من المسلمين، فالمؤمنون يعتبرونها إنذارا وتخويفًا مما هو قادم، والكافرون والعلمانيون والليبراليون يعتبرونها ظاهرة تستحقّ النظر والتمتّع والمراقبة بواسطة الكاميرات والمناظير المقربة، وأنها ظاهرة فلكيّة طبيعية تحدث بسبب مرور الأرض ما بين القمر والشمس، لا علاقة لها بأحوال بني آدم ولا بذنوبهم، بل هو جريان طبيعي للدورة الفلكية، وأصبح علماء الفلك يستطيعون أن يحددوا بدايته ونهايته.
أيها الإخوة، لقد كثر الحديث عن هذا الموضوع ومحاولة إخراجه عن قدرة الله، ونجح أعداء الله من يهود ونصارى وعلمانيين إلى حد كبير من صرف كثير من الناس عن التأمل في هذه الظاهرة والاتعاظ بها والخوف من عواقبها، ولم تعد تؤثر فيه، ولا يحرص في حالة حدوثها على الفزع إلى المساجد ليتفرغ للدعاء والاستغفار والصدقة كما فعل النبي وأمر. ففي السنة العاشرة من الهجرة وفي أواخر حياته انكسفت الشمس في الوقت الذي توفي فيه ولده إبراهيم رضي الله عنه، فخرج فَزِعًا إلى المسجد يجر رداءه مستعجلاً، وجاء في رواية مسلم أنه من فزعه أخطأ فخرج بدرع بعض نسائه لظنه أنه رداؤه حتى أدركوه بالرداء، قال ابن حجر: "يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من انشغال خاطرة بذلك"، وكان يومًا شديد الحر، وأمر مناديًا أن ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءً، فقام فيهم النبي وصَفُّوا خلفه، فكبر وقرأ الفاتحة، ثم قرأ بعدها سورة طويلة بقدر سورة البقرة، يجهر بقراءته، حتى جعل أصحابه يَخِروُّن من طول القيام، ثم ركع ركوعًا طويلاً جدّا، ثم رفع وقال: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد))، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة ولكنها أقصر من الأولى، ثم ركع ركوعًا طويلاً دون الأول، ثم رفع وقال: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد))، ثم سجد سجودًا طويلاً جدًا نحوًا من ركوعه، ثم رفع وجلس جلوسًا طويلاً، ثم سجد سجودًا طويلاً، ثم قام إلى الركعة الثانية، وسُمع في سجوده يقول: ((ربِّ، ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟! ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟!)) ثم صنع في الركعة الثانية مثلما صنع في الأولى، لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثم تشهد وسلم وقد انجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد: فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره))، وفي رواية: ((فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا حتى ينفرج عنكم))، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغيرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وايم الله لقد رأيت منذ قمت أُصَلِّي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، رأيت النار يحطم بعضها بعضًا، فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع منه، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، ورأيت فيها امرأة تُعذّب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد رأيتكم تُفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يُؤتَى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال: نَم صالحًا، وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، ثم ذكر الدجال وقال: لن تروا ذلك حتى تروا أمورًا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وحتى تزول الجبال عن مراتبها))، ثم قال: ((ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)) إلى آخر تلك الخطبة العظيمة البليغة الجامعة.
أيها الإخوة المؤمنون، هل تظنون أن فزع النبي وخروجه إلى المسجد مسرعًا ثم الصلاة ثم بعدها ألقى تلكم الخطبة وما شاهد في مكانه من أحوال وأهوال، هل كل ذلك يكون لأمر عادي ليس له أهمية؟! لا والله، إنه لن يكون إلا لأمرٍ عظيم ومخيف.
وإننا نُقر ونعتقد بأن لهذه الظواهر الكونية أسبابًا طبيعية، وأن علماء الفلك يستطيعون معرفة تاريخ وقوعه عن طريق حسابات دقيقة، ويُحدد باليوم والساعة والدقيقة، ونُقر ونعتقد بل ونجزم بأن هناك أسبابًا شرعية أيضًا، وهي المقصودة والمهمة في هذا الحدث، وأنها ابتلاءات يخوف الله بها عبادة كما قال في الحديث السابق؛ لكي نستيقظ من غفلتنا، ونحاسب أنفسنا، وننظر إلى واقعنا، ونتوب من ذنوبنا، ونصحح ما نحن فيه من أخطاء، ونعود إلى الله.
أيها الإخوة، إن ذهاب نور الشمس والقمر كله أو بعضه ما هو إلا إنذار وتذكير للعباد ليبتعدوا عن المحرمات؛ ولذلك كثر الخسوف والكسوف في عصرنا هذا بشكل ملفت ومتكرر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي سنة حتى يحدث كسوف أو خسوف أو كلاهما معًا في شهر واحد، والسبب كثرة المعاصي والفسوق في هذا الزمن، مع أنه في زمن النبي لم يحصل إلا مرةً واحدة، وقد قيل: إن المعاصي تزيل الحاصل وتمنع الواصل، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الآية.
أيها المسلمون، إنه لا تفسد الأحوال ولا تضيع الأمة إلا حين يُهدّ ويُمنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه الحصن الحصين والدرع الواقي والسياج الحامي الذي تتماسك به عُرى الدين وتُحفظ به حرمات المسلمين وتُهتك به أستار المجرمين، فإذا تعطلت هذه الشعيرة ودمر هذا الحصن وأقفلت أبوابه أو حُجِّمت فعلى الإسلام السلام، وويل يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويل لأهل الحق من المبطلين، وويل للصالحين من سفهِ الجاهلين وتطاول الفاسقين، قال : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجب لكم))، وفي حديث آخر: ((ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يُغيروا ثم لا يُغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)). فكم من المعاصي نراها ونستطيع أن نغيرها ولم نفعل.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
|