أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
يا غزة، معذرة ومثلي ليس يعتذر، ما لي يد فيما جرى فالأمر ما أمروا، وأنا ضعيف ليس لي أثر، عار عليّ السمع والبصر، وأنا بسيف الحرف أنتحر، وأنا اللهيب وحولك المطر فمتى سأستعر؟ لو أن أرباب الحمى حجر لحملت فأسًا فوقها القدر، هوجاء لا تبقي ولا تذر، لكنما أصنامنا بشر، الغدر منهم خائف حذر، والمكر يشكو الضعف إن مكروا، فالحرب أغنية يجنّ بلحنها الوتر، والسلم مختصر عاش اللهيب ويسقط المطر.
معاشر المسلمين، عظّم الله أجرَكم وأحسن عزاءَكم فيما حلّ بإخواننا المسلمين في قطاع العزّة والشموخ؛ أشلاءٌ متمزِّقة ودماء متدفّقة، مرافقُ وبيوتٌ على أهلها تدمَّر، حياتهم تُفجَّر، دموعٌ تتوالى وصيحات تتعالى، ومهما كُتِب ومهما قيل فلن يكون مدادُ المحابر أبلغَ من دماء الأبطال، ولا خُطب المنابر أفصحَ مِن صرخات الأطفال، فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلا به.
أيها المسلمون، يحتار الجنان ويعجم البيان ويكلُّ اللسان عن تصوير حالة البؤس والبأساء واللأواء والضراء لأهلنا في غزة المكلومة المحاصرة.
أيها المسلمون، هل نتحدث عن المحرقة اليهودية التي تقصف بلا رحمة ولا إنسانية الجوامع والجامعات والمدارس والجمعيات، أم نتكلم عن شلالات الدماء ومجازر الأشلاء والأطفال في عمر الزهور يُمزقون أو يئنون ويتوجعون، أم نصوِّر مرارات الأمهات وقد تعالت صيحاتهم واصفرت وجوههم وطالت همومهم حتى طار الرقاد من جفونهم؟!
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
هذه هي يهود، هذه طبيعتهم، هذه نفسيتهم التي طالما خُدِّرنا بسلام وتعايش سلمي معهم، هذه حقيقتهم كما صورها القرآن الكريم. ماذا ننتظر من قوم قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة؟! ماذا ننتظر من قوم ملطخة أياديهم بدماء الرسل والأنبياء؟! فكيف بالعزَّل الأبرياء؟! ألم يقل الله عنهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87]؟! ألم يقل الله عنهم: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 91]؟! ماذا ننتظر من قوم فقدوا الأدب مع الله فقالوا لموسى عليه السلام: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153]، وقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 18]، وقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64]؟!
هذه الأمة المرذولة الملعونة تتعطش للدماء والحروب، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]. هؤلاء تربي فيهم عقيدتهم الأنانيةَ واحتقار البشر، فهم في نظرهم شعب الله المختار، وهم أبناء الله وأحباؤه.
ثم لا تسل عن أي نوع من البشر تصنعه تلك النفسية المتغطرسة والمجرمة، هل تظن بعد ذلك أن يكون عندهم احترام لمخلوق أو تقدير لإنسان، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82].
إننا يجب أن نستيقن ـ عباد الله ـ أن يهود الأمس هم يهود اليوم، وهم يهود الغد، اختلفت قوالبهم، واتحدت قلوبهم، فجرائم يهود الآن التي نراها هي ذاتها الجرائم التي قامت بها عصابات يهود عند تأسيس دولة إسرائيل، وهي امتداد لمجزرة دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا وجنين، والآن غزة المحاصرة التي راح ضحيتها أكثر من 750 شهيد وأكثر من ثلاثة آلاف جريح. ولعل هذه المجازر من استراتيجية اليهود المطردة لفرض سيطرتهم وتوضيح الفرق في موازين القوى وتذكير الأمة العربية والإسلامية أن إسرائيل تفعل ما تشاء وقتما تشاء تحت مرأى ومسمع العالم دون أيّ رادع من قانون أو قوة. غير أن توقيت هذا الذبح الجماعي يبدو مرتبطا رباطا وثيقا بالانتخابات الإسرائيلية القادمة، في رسالة واضحة أن الفوز في الانتخابات مرهون بعدد الجثث الفلسطينية التي يمشي فوقها المرشَّح للرئاسة. وقادتهم المجرمون اليوم ليسوا إلا أبناء لآبائهم المحتلين المغتصبين.
إن هذا كله ليؤكّد لنا أن ما تفعله دولة يهود وبحبل من النصارى إنما هو حلقة من سلسلة العداء التي كانت ولا زالت على دين محمد وأتباعه في أرض الإسراء. وسيبقى عداؤهم لنا متجددًا وماثلاً ما دام فيهم عرق ينبض أو قلب يخفق.
أيها الأحبة، ما أشبه الليلة بالبارحة؛ هنا الطائرات تقصف، والمعابر تغلق، والحصار يحكم الطوق على العنق، والتصريحات تنطلق بالوعيد والتخاذل، وهذا التناقض المرعب في المشهد في جميع أنحاء العالم، والصمت الرهيب المطبق، كأن الكرة الأرضية لا يوجد فيها إلا الشعوب المطحونة التي لم تجد إلا حناجرها بالتعبير عن رأيها.
والبارحة كانت معركة الأحزاب، حينما أقبلت جحافل القبائل المتناثرة في جزيرة العرب بخيلها ورجلها، لأنهم رأوا أن شعوبهم بدأت تتركهم، وأن نفوذهم وأطماعهم ستزول، مدعومة بالتأييد العالمي في ذلك الوقت: الفرس والروم، والذين يأملون بإزاحة محمد ودعوته من مسرح الحياة، هذه الجيوش أحاطت بالمدينة وضربت حصارا قويا عليها، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10]. تأمل هذا المشهد وقارنه بما يحصل في غزه، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب: 11].
استمع إلى أصوات المخذّلين الذين أصابهم الهلع يريدون فتاة الصلح وهم خائفون، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب: 13].
ما أشبه ليالي غزة بليالي المدينة، غزة محاطة بالنار وقطع المؤن والحصار والمخذلين الخائفين، والمدينة في معركة الأحزاب كانت كذلك، الجيوش خارج أسوارها، واليهود داخلها يحيكون الدسائس والمؤامرات، فما الذي حصل؟ وكيف كانت النهاية؟
معركة الأحزاب انتهت بنهاية حيّرت العالم إلى اليوم، وهو النصر المؤزر لجند الله الذي خرج من رحم المعاناة، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا، ورغم ذلك كان النصر بحمد الله وتوفيقه. وكذلك الناس قد جمعوا لأهل غزة حتى قالوا: متى نصر الله؟ متى نصر الله؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
إذا محنة غزة شاهد إثبات أن العالم كله لا يدين بأي أعراف أو قوانين أو قيم أو نظم، بل تحكمه شريعة الغابة: القوي يأكل الضعيف، ولا مكان للجبناء.
ويتكرر المشهد مرة أخرى عندما حوصر العراق وجوِّع اثنا عشر عاما حتى خارت قواه قبل أن تدك قوات الغزو ذاك البلد المنهَك بالصواريخ والنار لتدمّره بالكامل. كأنّ حصار القطاع الظالم المستمر لعدة أشهر لم يكن كافيا, جاء هذا الإرهاب اليهودي ليقتل ما تبقّى من حياة أو رمق في جسم غزة الهزيل.
أيها الإخوة الأفاضل، اندلاع الحرب القذرة التي شنّتها الطائرات اليهودية على غزة الشامخة عكست الصورة الحقيقة لهذا العالم، صورة لا لبس فيها، صورة أزاحت ذلك القناع القاتم الذي يتوشّح العالم به ليظهر من خلفه صورة مطلية بأصباغ الزيف والكذب، إنّ الجميع ينشدون السلام والحريّات للشعوب الضعيفة المقهورة، والتي صار الأقوياء يجعلونها مبرّرًا لقمع الحكومات التي تخالف النظام وتخرج من الطابور أو تطيل أظفارها بإثارة هذه الشعوب ضدّها لإزاحتها من مسرح السياسة واستبدالها بغيرها.
هذه لغة الأقوياء السائدة، ولكن ما حدث في غزة قلب كل الموازين وكلّ الأعراف، فلا قوي ولا ضعيف، اتضحت الأهداف والنوايا، ومن المراد في هذه الحرب ومن الكبش.
إن حمى الديمقراطية التي ولدت من رحم الغرب ولادة مشوّهة وفصّلت على مقاسات دول الغرب فقط صدّرت للعالم الثالث من أجل السيطرة على مقدَّرات هذه الدول، وضرب هذه الشعوب بعضها ببعض بسوط الديمقراطية، ورأينا كيف هي الديمقراطية في بلاد الرافدين، كيف انتهت بذلك التوقيع المهين بذلك الحذاء.
أيها المسلمون، الهدف الأبرز لليهود هو ضرب المقاومة المسلّحة وروح الجهاد في الأمة، فالمطلوب إما استسلام تام وتطبيع كامل مع العدوّ مكلّلا بسلطة فلسطينية تقبل الإملاءات الإسرائيلية وتسهر عليها وتسكت عن جرائمها، وإما تهدئة تلو الأخرى تمكّن الصهاينة من الاستمرار في بناء المستوطنات والجدار الفاصل والحفريات السرية استعدادًا لهدم الأقصى وبناء الهيكل الثالث المزعوم، ولقد أصبح من نافلة القول أن كل تحركات الصهاينة السياسية تنبع من اعتقاداتهم الدينية ورغبتهم في تحقيق وعود التوراة المحرّفة لهم بالسيطرة على كل فلسطين كمنحة إلهية لهم. ولئن انهال العرب خاصة العلمانيين منهم وراء سراب فصل الدين عن الدولة والعقيدة عن السياسة في محاولة بائسة لمحاكاة النظم الغربية الحديثة فقد أعلن اليهود صراحة أن الدين والدولة شيء واحد عندهم، وأنهم في خدمة بعضهم البعض. ففي الندوة التي عقدت في إسرائيل في سنة ١٩٨١م قال د/ مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق: "أودّ أن أطمئنكم أننا في مصر نفرّق بين الدين والقومية, ولا نقبل أبدا أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى معتقداتنا الدينية"، فوقف أحد الأساتذة الإسرائيليين المتخصّصين قائلا: "إنكم ـ أيها المصريون ـ أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة, ولكني أحبّ أن أقول لكم: إننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرّد دين فقط، بل إننا نؤكّد أن اليهودية هي دين وشعب ووطن"، ثم ردّ أستاذ آخر بمثل ما قال الأول.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السماوات والأرض، يا حي يا قيوم، ارفع الضر عن إخواننا المسلمين في غزة، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم، اللهم إنا لا نستعين بغيرك، ولا نرجو إلا إياك في كشف ضرهم وبلواهم ومصابهم، اللهم إنهم فقراء إليك عاجزون محتاجون إلى دفعك ودفاعك عنهم، اللهم ادفع عنهم هذا البلاء الذي لا يدفعه سواك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة، ادعو الله في الساعة المباركة وأنتم موقنون بالإجابة.
|