أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه.
اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض، وأنت نور السموات والأرض ومن فيهن، اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض ومن فيهن، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، نحمدك ونقدسك ونشكرك، أحييت آمالنا، وأعدت أمننا، وجمعت كلمتنا، ووحدت صفنا، وأصلحت فيما بيننا، وكبت عدونا، وأخرجت يهود من غزتِنا، ومننت بالصبر والثبات على إخواننا، منك التكرم والتفضل والرضا، أنت الإله المنعمُ الفتاحُ.
أيها الإخوة المؤمنون، توقفَ القصفُ الصهيوني، وتكشفت آثارُ العدوانِ على إخواننا في جثثِ القتلى المدفونةِ تحتَ الأنقاضِ والبيوتِ والمدارسِ المهدمةِ والمساجدِ وحتى المستشفياتِ، ورأينا آثار أسلحةِ الدمارِ الشاملِ التي استخدمها الصهاينةُ بلا حسيبٍ ولا رقيب، منعٌ للغذاء والدواء، وقطعٌ للكهرباء، ومعاناة عظيمة عاشها إخواننا الصابرون في أرض غزة. توقف القصف الصهيوني بعد ثلاثة وعشرين يومًا من القصف والتدمير، بعد أزمةٍ عظيمة مرت بالعالم خصوصًا العربي والإسلامي قادةً وشعوبًا، أفرزت كثيرًا من العظات، وأسالت كثيرًا من العبرات، وبينت بعض التخاذلات، وكشفت مقدار ضعف وتفرق الأمة حتى في الأزمات، وبينت تكالب الأمم علينا، وكما قال : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها))، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللهُ من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهن))، قالوا: وما الوهنُ يا رسولَ الله؟ قال: ((حبُّ الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود وأحمد. لكن العبرة لم تنقَضِ، والعداوةُ لا تنتهي، والحروبُ على الإسلامِ لن تتوقف.
كذا فليجلَّ الخطبُ وليفدحِ الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
إن حقًا على أهل الإسلام أن تُربِّيهم التجاربُ والوقائعُ، وتصقلَهم الابتلاءاتُ والمحن، وإن بلوى نكبة غزوةِ فلسطين وتكرار ذكرها ينبغي أن يكون دافعًا لنا لا محبطًا، محركًا للجهود لا جالبًا لليأس من عدم النصر، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
عباد الله، لا نُريدُ أن تَمُرَّ بِنا أحَداثُ غَزةَ بِلا تَأمُلٍ ولا تَدبُرٍ، فالله سبحانه وتعالى يدعونا دائمًا للتأمُلِ والاعتبارِ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ. فتعالوا إلى بعضٍ من التَأمُلاتِ والخَطَراتِ بَعد غَزوةِ غَزة أرضِ العزة.
أولها: أن العداوةَ مع الصهاينةِ والصليبيينَ ومن معهم لا يُمكنُ أن تخبوَ جذوتُها باتفاقاتِ سلامٍ أو تبادُلٍ للعلاقاتِ أو بالتطبيعِ والسفَاراتِ، فحَربُهم على الإسلامِ قائِمةٌ دائمة، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا. ومن العجب أن ترى من يَعتَقدُ أن تغييرَ لونِ أو عرقِ رئيسٍ جديدٍ لأمريكا يُمكنُ أن يُغير سَياسةً صَليبيةً سَاهمت في دعَمِ الصهاينةِ والدفاعِ عنهم والحربِ على الإسلامِ ونَشرِ الفَسادِ الأخَلاقي وإضَاعةِ الحُقوقِ ومُجَاملةِ اليهودِ الذينَ دخلوا فلسطينَ قبل حوالي مِائةِ سنةٍ بتمكينٍ صليبي وصمتٍ عن مَجَازرَ دمويةٍ لليهود عبر تاريخهم في كفَرِ قاسم ودِير ياسين ومخيمات خان يونس والخليل وصبرا وشاتيلا وفي قانا وجنين وغزة.
ولقد رأينا سكوتَهم سابقًا عما يحصلُ للمسلمينَ من مجازرَ في البوسنةِ والهرسك وكوسوفا وبلاد الشيشانِ، ثم حصارُهم هم واحتِلالهُم لأرضِ العراقِ ومُدنِ الفلوجة والرمادي وبلادِ الأفغانِ وقصفٌ عشوائي بأنواعٍ للأسلحةِ الجرثوميةِ والفسفوريةِ المحرمةِ دوليًا، وما يقوم به الصهاينةُ إنما هو استكمالٌ لهذا الدور الاستعماري، فهم لا يريدون غزة، وإنما يريدون ما وراءها وما يتبعها وهكذا.
قصفٌ لا يفرقُ بين المدنيينَ والمقاومين، وبين المنزلِ والمسجدِ والمدرسةِ، بين من يُقاوم وبين المرأةِ والطفلِ، وإراقةٌ لدماء الأطفال، وانتهاكٌ لأعراض النساء، وتعذيبٌ للمسجونينَ، وتهديدٌ سافر وحصارٌ وعقوبات على أرض السودانِ وسوريا، وحربٌّ خفيةٌ على باكستان ومسلسل العداوة مستمر.
ثبت لدينا أن مناداتَهم بمبادئ حُقُوقِ الإنسانِ والديمقراطيةِ ومجالسِ أمنهم وهيئاتِهم إنما وضعت لمصلحتهم ومُحَاربةِ ديننا وأحكامِنا وحُدُودِنا الشرعية، وأن الانتخاباتِ في بلداننِا إنما هي أكذُوبَةٌ كُبرى عندهم، إن فاز بها من يُريد المحافظة على دينِ الناسِ ومصالحهم سخّروا عليه حربهم وحرَّكُوا زبانيتَهُم وعملاءَهم ضِدَّه وضدَّ حكومته.
إن الأفاعي وإن لانت ملامِسُها عندَ التَقلُبِ في أنيابها العطبُ
من آلام غزةَ التي كانت بالغةَ الألم غيرَ ما أصيبَ بهِ إخواننا من ألمٍ ظاهر ومن دمارٍ وحِصَارٍ وقَصفٍ وإيذاءٍ للأطفالِ والنساءِ إلا أن الألمَ الأكبرَ الباطن الذي كان واضحًا ولا يتعامى عنه أحدٌ ما رأيناه من خُذلانٍ مَشينٍ وتَجَاهُلٍ عَظيمٍ كانا واضحين ولهما بالغ الأثر، خُذلانٌ لمصابِ إخوانِنا، وتجاهلٌ لآلامهم، وتأخر في النصرة مارسته عددٌ من شعوبِ المسلمينَ وقَادتُهُم؛ بالانشغالِ بالتلاومِ والخلافاتِ والتلهي بالترهاتِِ والأباطيلِ، وهذا والله لعمري هو المصيبةُ الحقيقيةُ والألمُ البينُ الذي انغرسَ في نفوسِ كثيرٍ ممن كان يُتَابعُ مصائبَ إخوانِنا هُناك واستِغَاثَاتِهم التي كانت بلا مجيبٍ ولا مُغيثٍ، وهذا هو الهوانُ الحقيقيُّ، فليسَ غريبًا أن ينكأَ العدوُّ جِراحَنا ويَزيدَ في آلامِنا، لكن المؤلم أن ننَشَغِلَ بِبَعضِنا ونَخذُلَ ضعيفَنا ونُهمِلَ المحتاجَ إلينا ولا ننصر ذا كُربةٍ ولا نُغيثُ ذا مصيبةٍ، والله المستعان من الخورِ والهوان.
أعادت لنا غزةُ ثقتنا بمبدإٍ عظيمٍ كان ضَعفُهُ وفقدُه سببًا لهوانِ الأمةِ، ألا وهو ذروةُ سنامِ إسلامنا: الجهادُ في سبيلِ اللهِ لرفعِ رايةِ لا إلهِ إلا الله، الذي نَشَرَ الإسلامَ وحَافظَ على كرامةِ المسلمينَ عبَرَ التاريخ، قال : ((ما تَرك قومٌ الجهادَ إلا عمهم الله بالعذاب)) رواه الطبراني بإسنادٍ حسن.
ورأينا أهميةَ الصبرِ والصمودِ المقرونِ بالإيمانِ باللهِ وأثرَهما على أرضِ المعركةِ رُغمَ المصابِ الشديدِ، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
وإِننا حِينَ نُعلنُ هذا المبدأَ في مقاومتنا نُرهبُ العدو، وما تَقلبت أُمتُنا في ثنايا النكبات والنكساتِ عبرَ تاريخِ صراعِها مع الصهاينةِ والصليبيينَ إلا حين جنَّبت القرآنَ وتعاليمهِ وأهملت الجهادَ وقيمته وأهميته في الصِراع، ولو قلَّبتَ عددًا من التجاربِ الجهاديةِ في عصرنا خلال أربعين سنةٍ مضت لرأيت أثرَهُ العظيم في دفعِ المحتلِ ومقاومة ِالمعتدي، أعدنا ذكر الجهادِ ومدى أهميتهِ بعدما ناله من تشويهٍ على يدِ بعضِ الفئاتِ المنتسبةِ إليه، والتي سَّببت بتعجُّلها الفوضى والإرهابَ داخلَ مجتمعاتِنا الإسلاميةِ باسمِ الجهادِ، وهو من ذلك بريء، بل إنهم ساهموا عبرَ فَوضَويّتهِم واستغلالهِم لهذا المبدأ العظيم وتشويهه بإثارةِ الفوضى ومحاربةٍ للأنظمةِ وإعلانِ خروجٍ على القادةِ وإزهاقِ دماءِ الأبرياءِ وتكفيرٍ وتفجيرٍ غير مبرر، فكانَ فعلُهم هذا في الأمةِ أن مكَّنَ للصليبيين والصهاينةِ باسم مكافحة الإرهاب في عددٍ من بلادِ الإسلامِ ومحاربةٍ لمجالات الخير وتضييقٍ على جمعيات إغاثةِ المسلمين، إضافةً لهجومٍ وتغييرٍ لمناهجِ التعليمِ ومجاهرةٍ بالمنكراتِ من أصحابها وتوريطٍ للأبرياءِ ومعتقلاتٍ همجيةٍِ صليبيةٍ، وما كانَ لهم أن يقومُوا بهذه الهجماتِ ويُحققوا تِلكَ النتائجِ إلا بمساعدةٍ من هؤلاءِ المتَعَجلينَ شاؤوا أم أبوا، ولا شك أن بعضَ منافقي الأمةِ وخونَتِها كانت لهم اليدُ الطولى في استغلال مثل تِلكَ التصرفاتِ وتَوظيفها لفائدةِ الأعداءِ ومحاربةِ النُظُمِ والضغطِ عليها بتوجيهاتٍ أجنبيةٍ عميلة.
من عجائبِ غزة أنها أبانت لنا كثيرًا من كيدِ ومؤامراتِ خَفَافيشِ الظَلامِ الذينَ انبروا في صُحُفِنا وقَنواتِنا للنقدِ والتَهَجُّمُ والنيلِ من مقاومةِ أولئكَ الأبطالِ في أرضِ غزةَ، وباتوا يصطادون في الماء العكر؛ ليغمطوا الحقوقَ ويتجاهلُوا الحسناتِ ويُبالغوا في وصفِ الأخطاءِ والسيئاتِ، يستَغِلُونَ الأزماتِ ليُخرِجوا غيظَ قلوبِهم، فأصبحوا عونًا للمعتدي الصهيوني والمتآمر الصيليبي عبرَ أجهزةِ مخابَراتِهم، فأثاروا الشِقَاقَ والخِلافاتِ، وطعنوا في النياتِ، وحمَّلُوهُم وحدهُم المسؤولياتِ عما جرى من دِماءٍ وإصَاباتٍ، ولا تجدُ للعدوِّ نصيبًا من تقييمِهم، وكأنَّهُم يتحدثونَ بِلسَانِهِ ودِفَاعًا عنهُ، وهذا نتيجة خير عامٍ يأتي من خِلالِ الأزماتِ التي تُصيبُ الناسَ ليتضحَ الحقُّ ويزولَ لبسُه، وليعرفَ الإنسانُ صديقَهُ الحقَّ من عدوهِ أو صديقَ المصلحةِ والمنفعةِ وصديقَ المتاجرةِ على حِسَابِ القضيةِ، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. لقد أشبهوا ـ هَدَاهُم الله ـ بأَفعالهِم هذهِ أفَعالَ المنافقينَ زمن رسول الله وصحابَتِه الذين كانوا يستغلِّون الأزماتِ في غزوةِ أُُحدٍ والخندق وتبوك بإثارةِ الفتنِ والخلافاتِ والنيلِ والاستهزاءِ حتى نَزَلَ فيهم عَددٌ من آياتِ القرآن ذمًا لفعلِهِم وتَثبيتًا للمؤمنينَ الصادقينَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. كيفَ رأينا من يفترضُ فيهِم حمايةُ الشعبِ الفلسطيني يَقفُ ضِدّهُ حينما اختارَ حكومةً إسلامية، كيف حاربُوها وشاركوا في حِصَارها في غزة ومنعوا الأموال عنها وهم الذين باسمِ القضيةِ يأكلونَ أموالَ فلسطين، وبالله نعوذ من أسباب الخذلان والهوان.
مما ينبغي تأمُلُهُ في تقييم صِراعِنا مع اليهود كيفَ أنّ هؤلاءِ اليهود الأقلية في العالمِ والذينَ كانوا في شتَاتِ الأرضِ ومَنافيها بنوا دولةً بهذهِ القوةِ العسكريةِ والاقتصاديةِ والعلميةِ والإعلاميةِ والسيطرةِ على العالم بهذا الشكل الذي لا يمكن تجاهله، كانوا منبوذينَ فوحدوا جُهُودَهُم وحقَقوا أهدافَهُم، قد فعوا مُنذ بَدأت معركتُهم رايةً واحدةً وهي التلمود، واندفعوا وراءَ غايةٍ واحدةٍ هي أرضُ الميعادِ، فأسموا دولتهم باسم نبي هو يعقوب عليه السلام أو إسرائيل، وجعلوا دستورَ دولتِهم التوراة، وخاضوا معارِكَهُم خَلفَ الأحبارِ والحاخامات، وجعلوا لدولتِهِم بِكلِ توجُهاتِها شِعارًا واحدًا هو نَجمةُ داود، وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدونَ بناءَهُ مكانَ المسجدِ الأقصى كما يزعمون، وما كان لهم أن يُحَقِقُوا ذلك لولا أن مَن واجههم سابقًا كان يرفعُ رايةً علمانيةً لا تُظهر الدين ووضعًا متفرقًا وأمةً عربيةً وإسلاميةً لاهيةً عن هدفها، وما أقلق يهود مؤخرًا أن من يواجههم الآن يرفعُ رايةَ الإسلامِ وخِدمَةَ المجتمعاتِ ونزاهةَ الذمم، وهذه من عواملِ النصرِ التي أخافتهُم من حماسٍ وكتائبِ القسامِ والأقصى، فاغتالوا أحمد ياسين ونزار ريان وغيرهم من الأبطال.
من تأملاتِ غزة المهمة التي يجبُ أن نتَذكرها أنهُ لا يمنع خفوت صوتِ المعركةِ من مراجعةِ الحساباتِ وتقييم التَصرُفاتِ، كُلّ فيما يخصُه، وأن لا يَكونَ الحماسُ في نُصرتِنا لأهلنا في غزة وتعاطُفنا مع أبطالِِ حماسٍ سببًا للتغاضي عن الأخطاءِ التي وقعت والزلل الذي حَصَل من أيِّ أحدٍ كان، فالمراجعةُ مُفيدةٌ للإصلاحِ في قضايانا ومن خلالِ مُصَابِنا، فالنقدُ الهادفُ يبني ولا يهدم، ولذلكَ كان خِطاب الله لرسوله وصحابته بعد بدرٍ وأُحدٍ: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، وقوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وإن ما حصل من فُرقَةٍ وخِلافٍ واقتِتَالٍ بين الفلسطينيين قبل اعتداءاتِ الصهاينةِ لأمرٌ يُدمي القلوبَ المؤمنةَ والمتُعاطفة مع مُصَابِ أرضِنا ومُقَدَسَاتِنا في فلسطين، وكان المستفيدُ الأكبرُ مِنهُ هُم اليهود؛ ولذلكَ سارعَ بعضُ قادةِ المسلمينَ لرأبِ الصَدعِ، ومِنَها محاولةُ ولي أمر بلادنا ـ وفقه الله ـ بمبادرةِ مَكَة التي أجهزَ عَليهَا بَعضُ الخونةِ من مُقتَاتي القضيةِ الفلسطينية والمستفيدين مَاديًا من جِراحَاتِ إخوانِنا والمتعاونين مع اليهود في برامجهم. كذلك فإن التهاونَ في أمرِ التواصلِ والصلة مع الخونةِ والمُبتدعةِ والرافضةِ لا يسبب إلا خيانةً وخُذلانًا وتَأثرًا بِتلكَ المناهِجِ وغِشًا للأمةِ بِهم وهمُ الذينَ يثيرونَ الفتن ويُضعِفُون الدين عبرَ تاريخهم.
أبانت لنا غزة كيفَ أن اختلافَ الكلمةِ يُمكنُ أن يُدَمر الأُمَمَ في أحلكِ الظروفِ ويُفشِلَ الدولَ ويُضعفَ القوى، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. رأينا انقسَامنا العربي تجاهَ ما حصلَ واختلافَ المواقفِ في أمورٍ لا تستدعي كُلَّ ما رأيناه من احتياطات، فالدِمَاءُ المسلمةُ تُراقُ، وآلةُ العدو الصهيوني تُبيدُ وتَقصِفُ بِمباركةٍ ودَعمٍ من أمريكا الصليبية، ونحن لم نتَفق على اتجاهٍ واحدٍ أمام ما يحصل، بل ذهبنا نريدُ الفُرقة فيما بيننا ونتبادلُ الخُصُوماتِ لمن حَولَنا ونَزيدُ في انقسامِنا.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا وإذا افترقن تكسرت آحادا
أيها المسلمون، لقد هانت هذهِ الأمةُ حينَ ظَهر فيها تفُرّقُ الكلمةِ واختلافُ الأغراضِ وتَجَاذُبِ الأهواءِ، شُغِل بعضهم ببعض، انقسموا إلى قومياتٍ، وتفرقوا في دُوَيْلات، استولت عليهم الفُرقة، ووقعت عليهم الهزيمة، بل نهش بعضُهم بَعضًا، وسَلَبَ بَعضُهُم حقوقَ بعض، حتى صِيح بهم من كُلِّ جانبٍ، فانصرفوا عن قضاياهم الكبرى، واستغلَّ الأعداءُ هذهِ الأجواءَ، وفي هذهِ الأجواءِ المظلمةِ والأحوالِ القاتمةِ يزدادُ الصهاينةُ في مقدساتنا عُتُوًّا وفسادًا وتقتيلاً وتخريبًا.
من تأملاتِ غزةَ أننا نعلمُ أن المصائبَ سَببٌ للصبرِ، والصبرُ طريقٌ للنجاحِ إذا رافقه إيمانٌ عظيمٌ بالله، وهو ما نرجوه لإخواننا في غزة، نحسَبُهُم كذلك والله حسيبهم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. والإنسان إنما يُبتَلى على قدرِ دينه، نَقُولُ ذلك ونَحنُ نرى ما ابتلى الله بهِ هذهِ الأرضَ المقدسةَ بنصِ القرآن فلسطين مُنذُ حوالي مائةِ سنةٍ من استعمارٍ صليبي مكنَ لمحتلٍ صهيوني أخرجهم من ديارهم، وطردهُم من أرَضهِم، واحتلَّ المسجد الأقصى ويُخَطِطُ لهدمِه، ويمارسُ المجازِرَ الوحشيةَ عليهم ما بين فينةٍ وأخرى على أرضِ الرباطِ فلسطين، وهم صابرون محتسبون بإذن الله، اختارَ أكثرُهم أن يُحكموا بالإسلامِ مع ما يدفعونه من ضرائب، نرى معنوياتُهم هذهِ الأيام في غَزة بعدما حصل لهم، فتشعرُ بالعزةِ، نرى أمهاتِ القتلى وآباءَهم بل وأطفالهم وقفوا صفًا واحدًا غيرَ واهنينَ ولا مُستَسلمينَ أو متخاذلينَ في وجهِ عدوانِ الصهاينةِ بالرُغمِ مِن ألمِ المصابِ، فما انتفعَ اليهودُ بِقَصفِهِم، ولم يُحَقِقُوا هَدَفَهُم، وخرجوا بِحَقٍ أذلاءَ أمامَ أبَطَالٍ لا يُنافِسونهم بِقوةِ عَتادٍ ولا تَقنياتٍ، وإنما بتوكُّلٍ أعلنوهُ على رَبِّ البَرياتِ، وبإسلامٍ اتخذوهُ مَنهَجًا للمقاومةِ والتضحيات.
أيها الأحبة، مَكاسِبُ غَزةَ التي تحقَّقت بعد آلامِنا التي عشناها طوالَ فترةِ الصراع لا بدَّ من استثمارِها وعدمِ التهاونِ بِها، فلا ينبغي التفريطُ فيها أو التلاعبُ بها، نعم فالشعورُ بالجسدِ الواحدِ الذي تمثل في وقفاتٍ مع أهلِ غزةَ في عَدَدٍ من بُلدانِ العالمِ الإسلامي وبُلدانٍ غربيةٍ كُلٌّ حَسَبَ طاقتهِ وجُهَدِه، ووفود العلماءِ التي قامت بدورٍ إيجابيٍ كبيرٍ في حَثِّ هِمَةِ الزُعَمَاءِ وزيَارَتِهِم ومُنَاصَحَتِهِم في تجديدٍ لدورِ العلماءِ المُفتَرضِ في الأُمَةِ، وإحياءٍ لمنهجِ ابن حنبلٍ وابن تيمية والعزِّ بن عبد السلام وغيرِهم، وكلماتٍ لبعض قادَةِ المسلمينَ تجاه القضيةِ كانت إيجابيةً تُعلن إيقافَ المبادراتِ السلميةِ الهزيلة وقَطع العلاقاتِ، وتَتَبرعُ بالمالِ لإعمارِ غزة وإغاثةِ ِأهلهَا، وكذلكَ مواقف للشعوبِ المسلمةِ من إندونيسيا إلى المغربِ الأقصى، ومن تركيا إلى أفريقيا، حركَّت فينا الشعورَ بأهميةِ الإسلامِ وحَجمِ المسلمينَ وعِظَمِ الحربِ والتكالُبِ على الدين، وجدَدَت في قُلُوبِنا جَميعًا مبادئ مهمة في ديننا وهي الولاءُ للمسلمينَ والبراءةُ من الكافرينَ، وأن الحركاتِ المذهبيةِ الضالةِ خطرٌ على الإسلامِ كان ينبغي التنبّه له وعدمُ الاعتمادِ على جعجعةٍ إعلاميةٍ تدعي أنَّها تُناصِرُ القضيةَ، لكنهم لا يلبثونَ أن ينقلبوا على الصفِ ويُسَوِّقوا للبدعةِ واللعنِ، يحاربونَ السنةَ ويثيرونَ الفتنةَ، والأمثلةُ كثيرةٌ والشواهدُ قريبةٌ، ولعل من مكاسبِ غزةَ بإذنِ الله أن يَلتفَّ الصفُ الفلسطيني ويتّفق ليُداوي الجِراحَ الغائرةَ ويعيدَ البيوتَ العامرةَ ويبحثَ عن مصلحةِ فلسطين المتحققة، والأمل كذلك بإصلاحٍ عربي يُحقق مصلحةَ الشعوبِ، يُوحِدُ الصف ويُخَفِفُ أثر الخلافِ والشقاق.
إنها ـ إخوتي ـ كلَّها مكاسب عظيمةٌ أزعمُ أنها ما كانت لتتحقق من دونِ أحداثِ غَزةَ التي كان لها الفضل بعدَ اللهِ في ذلك، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، ويقول تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.
أيها الإخوة، إن أحداث غزة تدعو بعضنا لإعادةِ حساباتهِ مع نفسهِ وتقييمهِ للأحداثِ، وكيف يكونُ التعاملُ مع هؤلاءِ اليهود خونةِ العهودِ الذين لا تزال تَطَّلِعُ على خائنةٍ منهم، فمن اعتقدَ أن اليهودَ قد ارتوى عَطَشُهم من الدماءِ بعدَ غزة فهو مخطئٌ في اعتقاده، ومن يظنُ أن خونةَ العهودِ يبحثونَ عن السلامِ فليعد حساباتِه، ومن يظنُ أن اليهودَ يفهمونَ مَنطِقًا غيرَ القوةِ فلينظر إلى جهادِ غزةَ وأبطاله، ومن علّقَ حِبالَ ودِّه وعلاقتهُ معهم فيما مضى فليراجعْ عِلاقَاتِه، ومن يعتقدُ أن دولَ الصليبِ الكافرةِ لا توالي اليهودَ وتدافِعُ عنهم فقد أهملَ القرآن وآياتِه، ومن حاصر أهل غزة ومنع عنهم النصر فالتاريخ لن يرحمه إذا استمر على تصرفاته، ومن تسرّب إلى قلبه اليأس خطأً من ضعف المسلمينَ فإنَ غزةَ تُعيدُ إليه صوابه، ومن تخاذل في صحيفته وأفسد في فضائيته فلينتقِ براجمه وليصحح كتاباته، ومن كان فَهمُه ُللأحداثِ مُتَجاهِلاً للسُنَنِ الإلهية والأحكامِ الرباينةِ فهو غَافلٌ لاهي.
فلنعد حِسَاباتنا جميعًا استثمارًا لأحداثِ غزةَ المؤلمةِ، ولنُجَدِد اليقينَ بنصرِ ربِّ العالمين وبإيمانِنا بالقويِّ المتين، باتباعنا لسيدِ الأنبياءِ والمرسلين الذي قال: ((لتقاتلن اليهود على نهر الأردن، أنتم شرقية وهم غربية، حتى يختبئ اليهوديّ خلف الشجر والحجر فيقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فقتله)).
اللهم اجعلنا لآياتك من المتدبّرين، وللأحداث من المعتبرين، وعلى البلاء صابرين، وللنعماء شاكرين، إنك أنت أرحم الراحمين.
|