أما بعد: فقد خلق الله سبحانه هذه الحياة الدنيا، وجعلها دار ابتلاء وامتحان، وخلق فيها من الفتن ما يتميز به الصادق من الكاذب، وما يتبين به المخلص من المنافق، يقول تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1-3]. فكان من حكمة الله وعدله أن أوجد آفات وقواطع في طريق الجنة والدار الآخرة؛ إذ إنه لو لم يوجد الله ذلك لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولاستوى في ذلك المؤمن والمنافق والصالح والفاجر.
وإن من الفتن العظيمة فتنة قد فرقت بين الأرحام وقطعت بينهم المحبة والوئام، فتنة أوقعت بين كثير من الناس العداوة والبغضاء، فتجدهم يبغضون من أجلها ويعادون من أجلها، بل وقد يتقاتلون من أجلها، فتنة حذر الله منها في كتابه، وحذر رسوله منها في كلامه، ألا إنها فتنة المال، وما أدراك ما فتنة المال؟!
هذه الفتنة قد نص عليها القرآن وبينها أحسن بيان، يقول سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]، وأخبر سبحانه بأن النفوس تحب المال حبًا كثيرًا شديدًا كما في قوله: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 19، 20]، وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8]. وأخبر سبحانه أيضا بأن مَن فتَنَه المال عن الله وذكره وعبادته أنه من الخاسرين للسعادة الأبدية والنعيم المقيم؛ لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى، يقول جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المنفقون: 9].
وقد حذرنا رسولنا من الوقوع في شباك فتنة المال، وبين بأن من وقع في ذلك فإن دينه وتقواه في خطر عظيم، يقول : ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) أخرجه أحمد والترمذي، وقال : ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)) أخرجه أحمد وغيره.
وكانت فتنة المال من الفتن التي خشيها النبي على أمته، ذلك أنها ستلهيهم عن دينهم وتورث بينهم العداوة والبغضاء وتهلكهم، قال : ((والله، لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) أخرجه البخاري.
عباد الله، إن هذه الآيات والأحاديث من الله ورسوله هي حجة على الناس لا حجة لهم، فإنّ من الناس من يظن أن إخبار الله ورسوله عن شيء أنه فتنة وأن النفوس تميل إليه أن ذلك تبرير وتصحيح للافتتان به، وهذا فهم خاطئ، بل إن بيان ذلك من أجل الحذر ومعرفة خطورة ذلك الأمر، وأنه مؤثر على دين الإنسان وسيره إلى الله.
ولسائلٍ أن يسأل: ما العلامة التي تدل على أن الإنسان مفتون بالمال؟ وما الضابط في ذلك؟ وهل كل معاملة بالمال تعتبر فتنة به؟ وهل طلب الرزق والسعي في الأرض والتجارة والتكسب هي فتنة بالمال؟ وهل لبس الملابس الطيبة وركوب السيارة المريحة وسكنى البيت الواسع هي من الفتنة بالمال؟
والجواب عن ذلك أن نقول: اعلم أن علامة الفتنة بالمال هو أن يؤدّي بك ذلك المال إلى ترك واجب أو فعل محرم، فمتى وقع الإنسان في ترك واجب من الواجبات أو فرض من الفروض أو ارتكب محرما من المحرمات بسبب أن يكسب مالاً جديدًا أو يحبس مالاً عنده فإن هذا هو عين الفتنة بالمال.
فمن المفتونين بالمال الذين يمنعون زكاة أموالهم ولا يخرجونها، فتجد عند الشخص مثلاً أموالا تجارية سيارات أو عقارات أو مواد غذائية أو ملابس أو غير ذلك، أو عنده مال يبلغ النصاب ويحول عليه الحول ولا يخرج زكاتها، ولا يسأل أهل العلم عن أحكام الإسلام في ذلك.
وكذلك من المفتونين بالمال من يتكسب ويتاجر بالمحرمات، كمن يبيع الدخان والجراك أو المجلات المحرمة والأشرطة الغنائية، ومن يفتح محلات المقاهي والشيش.
وكذلك أيضا من يأكل الربا ويتعامل به ويأكل الرشوة، ويقصّر في نفقة الزوجة والأولاد ولا يعطيهم ما يحتاجونه، بل تجده يبخل عليهم مما يضطرهم إلى الالتفات إلى غيره عند طلب حاجياتهم.
ومن المفتونين بالمال هؤلاء الذين يسألون أموال الناس من غير حاجة، بل يسألونها تكثرا وطمعًا في الزيادة، يقول : ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر)) أخرجه مسلم.
ومن الفتنة بالمال ـ أيها المؤمنون ـ أن يؤثر ذلك على عبادة المسلم في صلاته، فتجده لا يخشع فيها ولا يتدبر الآيات والأذكار، بل هو مشغول بالتفكير والتدبير لأمواله وكيف يكثرها ويستثمرها.
وكذلك من صور الفتنة بالمال من يستدين أموال الناس ولا يسددهم وهو قادر على ذلك، وهذا ظلم كما في الحديث: ((مطل الغني ظلم))، بل وصل الحال ببعضهم إلى أنه لا ينوي السداد أصلاً وقت الاستدانة، وهذا شعبة من النفاق، وقد كان النبي لا يصلي على رجل مات وعليه دين.
عباد الله، إن من الظالمين ظلمًا عظيمًا ومن المفتونين بالمال فتنة عظيمة من يقتطعون أموال الناس بالأيمان الكاذبة، أو بالتحايل والتدليس والغش، وأحيانًا بالقهر والجبر والطغيان، إن من وقع في ذلك فيجب عليه أن يتوب إلى الله ويستغفره ويُرجع الحقوق إلى أهلها قبل أن يفاجئه الموت، ولا ينفع حينها الندم، فلقد توعد من اقتطع أموال الناس واعتدى عليها ظلمًا وزورًا بالحرمان من الجنة ودخول النار، فعن أبي أمامة الحارثي أن رسول الله قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه ـ أي: بالحلف الكاذب ـ فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة))، فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرا يا رسول الله؟! فقال: ((وإن قضيبا من أراك)) أخرجه مسلم، وقال : ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)) متفق عليه.
إخوة الإيمان، إن هذه الصور والأمثلة السابقة هي غيض من فيض، ولا يقصد بها الحصر، إنما هي ذكرى للذاكرين وموعظة للمؤمنين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|