عباد الله، على الرغم من ذكر القرآن للأمم والشعوب البائدةِ وحديثهِ عن الشرائع والرسالات السابقةِ، إلا أنه كان له تركيزٌ أكثر واهتمام أكبر بأمةٍ واحدةٍ من الأممِ، إنه ما من أمةٍ من الأمم تناول القرآنُ تفصيل نشأتها وتاريخ تكوينها وبيان أحوالها وخصائص شخصيتها ودقائق مواقفها ودخائل نفوس أفرادِها مثل أمةِ اليهود.
أيها المسلمون، لقد تكرر ذكر اليهود وبيانُ حالِهم في أكثر من ثلث سور القرآن الكريم بسطًا وإجمالاً وتصريحًا وتلميحًا، فها هي أول سورةٍ في القرآن فاتحةُ الكتابِ التي يكررها المسلمون يوميًا في كلِ فريضةٍ من فرائضهم ونوافلهم يردُ البيان الإلهيُ عن انحراف اليهود والنصارى، ويلتجئ المؤمنون إلى ربهم أن لا يسلكَ بهم سبيلهم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ.
عباد الله، إن ذلك الاهتمام والتكرار القرآني يدل فيما يدل عليه أن الصراع بين اليهود والمسلمين سيبقى إلى يومِ القيامةِ، وكلما خمدت جذوة الصراعِ في منطقةٍ أو عصرٍ من العصور فستتجددُ في مكان آخر وفي أزمنةٍ متلاحقةٍ وفي صورٍ شتى، فلا غرابةَ إذن أن يَكثر الحديثُ عنهم وأن يكشف القرآنُ أحوالهم.
أيها المسلمون، للمرة الألف تفقد فئام من هذه الأمة ذاكرتها، وتجلس مع عدوها تبحث عن سلامٍ وعهود ومواثيق، يذبحُها عدوها بالأمس وتدير له اليومَ خدها الآخر تظنهُ سيقبلُها، يكذب عدوها ألف مرةٍ ولا تزال ترجو أن يصدُق! يخون لها ألفَ ميثاقٍ ولا تزال تثقُ بمواعيده! يخدعها ألفَ مرةٍ ولا تزال قابلةً لأن تُخدع! فما لنا اليوم؟! ما لنا لا نتعظ بأحداث التاريخ وتقلباتِ الأيام؟!
عباد الله، إني أسائل كل من مدَّ يدَه للسلام: أيّ سلامٍ تذهبونَ إليه وتدعون له؟! أهو السلام الذي يحبُه الجميع ويؤمن به الجميعُ ويدعو إليه الجميع، أم يا ترى هو سلام شعبٍ واحدٍ ومن طرفٍ واحدٍ؟! وهل هو حقٌ لجهةٍ دون أخرى؟! أي سلامٍ لا يكون الحديث فيه إلا عن التفوق العسكري لطرفٍ على حساب الآخر؟! أيُ سلامٍ يلتزم فيه القائم على رعاية السلامِ بتفوق طرفِ على آخر؟! هل هو سلامٌ بمواصفاتٍ خاصةٍ وشروط خاصة؟! أهو سلام الغلبة والتسلط والحصارِ والتهديدِ ضدّ كلّ من لا يرضى بهذا النوع من السلام؟! أي سلام يدعون إليه؟! أهو السلامُ الذي يهدمُ البيوت ويشردُ من الديارِ ويحاصر الشعوبَ ويعتقلُ المئاتَ ويجعلُ ردَ الظلم من طرفٍ إرهابًا ومن طرفٍ آخر حقًا مشروعًا وصوابًا؟!
عباد الله، إذا كان السلامُ الذي ينشدونهُ كذلك فكيف يمكنُ الاقتناع بجدوى مشروعاتِ السلام وضمان استمرارها إذا كانت الموازين بهذا التقلبِ والمصطلحات بهذا التلاعب؟!
قد حصحص الحقُ لا سلمٌ ولا كلمٌ مع اليهود وقد أبدت عواديهـا
قد حصحصَ الحقُ لا قولٌ ولا عملٌ ولا مواثيقُ صدقٍ عند داعيهـا
أين السلامُ الذي نادت مَحافلكم؟! أين الشعاراتُ يا من بات يطربها
تـآمرٌ ليـسَ تخفـانـا غوائلـهُ وفتنةٌ نتـوارى من أفـاعِيهـا
أيها المسلمون، كم مرة عضَ اليهود يدًا امتدت إليهم بالسلام! وكم مرة نقضَ اليهودُ عهودًا أبرموها ومواثيق عقدوها! لقد قال الله تعالى مجليًا حقيقة عهودهم ومواثيقهم: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ [الأنفال: 56]، وقال سبحانه: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 100].
هذه شهادةُ القرآن، فما شهادةُ الواقع على هؤلاء الأقوام؟ لقد عاهدهم الرسول ، وكتبَ بينه وبينهم كتابًا حين وصل المدينة، فهل التزمَ اليهودُ العهدَ واحترموا الميثاق؟ كلا، فقد غدرَ يهودُ بني قينقاع بعد غزوة بدرٍ وانتصار المسلمين على المشركين، والمعاهدة لم يمض عليها إلا سنةٌ واحدةٌ. وغدرت يهود بني النضير بعد غزوةِ أحدٍ وتجرؤوا على المسلمينَ بعدما أصابهم في غزوةٍ أحدٍ. وغدرت بنو قريظة عهدَهم في أشدِ الظروف وأحلكها على المسلمين يوم الأحزابِ. فإذا كانت هذه أخلاقُهم مع من يعلمون صدقه ويعتقدون نبوتَه فهل يُرجى منهم حفظُ العهودِ مع الآخرين؟! وهل يُتوقع صدقُ اليهود في معاهداتِهم مع من يرونهم أضعف قدرًا وأقلّ شأنًا؟!
عباد الله، إن اليهود قومٌ بهتٌ خونةٌ كما قال ذلك عبد الله بن سلامٍ رضي الله عنه الذي كان يهوديًا فأسلمَ، وهم ينظرون إلى العهود والمواثيق التي يوقعونها مع غيرهم أنها للضرورةِ ولغرضٍ مرحلي ولمقتضياتِ مصلحةٍ آنيةٍ، فإذا استنفد الغرضُ المرحلي نقض اليهود الميثاق من غير استشعارٍ بقيمٍ أدبيةٍ ولا اعتباراتٍ أخلاقيةٍ ولا بمواثيقٍ دوليةٍ.
أيها المسلمون، إن مما نبه عليه القرآنُ وبتنا نراهُ في واقعِنا اليوم أن اليهودَ حين ينقضون العهودَ لا ينقضها جميعُهم في وقتٍ واحدٍ، وإنما ينقضها فريقٌ دونَ آخر، فإن أصابه سوءٌ تظاهر الفريق الآخرُ بالمحافظةِ على العهدِ، وإن استقامَ لهم الأمرُ تتابعوا في النقضِ، ومشى بعضهم وراءَ بعض، قال سبحانه: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
واليوم الواقعُ اليهوديُّ يصدقُ ما أخبرَ اللهُ تعالى عنهم، فها هم حزبٌ يدعو إلى السلامِ، وحزبٌ آخرُ يجاهر بالعداوة، هذا يجلسُ على مائدةِ المفاوضاتِ، والآخرُ يُعملُ سلاحَه، فإذا أمنوا تهالكوا جميعًا في الحقدِ والبطشِ والمكرِ، هكذا هم اليهودُ، فتبًّا لمن لم تعظهُ حروف الزمان.
ومن لم تعظه حروفُ الزمانِ وكيدُ الليالي يعيش مستضاما
|