إخوة الإيمان والعقيدة، في هذا الزمان وفي كل مكان يراق دم الإنسان، كل ذنبه أنه يقرأ القرآن.
غزة تغرق في بحر من دماء أبنائها، غزة تغرق في ظلام دامس، بيوت ومساجد غزة تحترق، أطفال غزة يحرَّقون، وشباب غزة وشيوخها يموتون، دماؤهم تروي أرض غزة، غزة تبكي، غزة تشيّع شهداءها وتدفن موتاها. الناس في غزة يموتون قصفًا وجوعًا وعطشًا ورعبًا وبردًا وحصارًا خانقًا قاتلاً رهيبًا.
يا كل هذه الدنيا، غزة تموت دون أن يلتفت إليها أحد. يا هذا الكون، غزة تستغيث دون أن يلبي استغاثتها مغيث، غزة تناديكم يا عرب فلبّوا نداءها، غزة تستغيث بكم فأغيثوها، غزة تصرخ موتًا، تصرخ رعبًا، تصرخ ألمًا، تصرخ جوعًا، تصرخ قهرًا، فأين أنتم؟! أين أنتم يا عرب؟!
يـا أهـل غـزة لا عذرٌ فنعتـذرُ و مـا لنـا عن سهام العار مستَتَرُ
يـا أهـل غزة جبـارون ملحمةٌ مـن الصمود سُداها الموت والخطرُ
أنتم بقايا خيوط الضـوء في زمـن مـن الدُّجُنّـة بالدّجنـاء يعتكـرُ
رمـاكم العالَم الملعـون عـن وَتَر وأطبق الكـون لا حـسّ ولا خبرُ
فمـا رآكم سوى أسبـاع مأسدة إذا بدا الْهول لا تبقـي ولا تـذرُ
ونَحن فِي هـامش التـأريخ أُلهيـةٌ خُذروفُ غـرّ لـه في لهـوه وطرُ
كنـا إذا أرغـم الأعـداء هيبتنـا أو استباحوا الحمى بالشجب ننتصرُ
واليوم لا شجب حتى الشجب مجترم تأسـى لـه الْمُهج الحرى وتصطبرُ
كنا و كنا إذا ما العـار سـاورنـا يَجـيء مـؤتمـرٌ يتلـوه مؤتمـرُ
واليـوم تأتَمر الأحقـاد فِي دمنـا وغـاية العيـس لا وردٌ ولا صَدَرُ
ما يحصل لكم اليوم ـ يا أهل غزة ـ وكل يوم هو سم ينفثه الأعادي على هيئة جرائم قذرة يزداد شررها بازدياد صمودكم وإيمانكم، وأنتم مثلٌ رائع للمسلمين في هذا الإباء والقوة. صحيح أننا خذلناكم، وتناسينا قضاياكم، ولا نتذكركم إلا مع بروز أحداثها، وهذا وبال علينا ورفعة لكم.
يا أهل غزة، إن أطفأ اليهود شمعكم فنور إيمانكم يضيء ويحرق، وإن زعزع الخنازير ثقة قوتكم فثقتكم بالله تنسي قوتهم، وإن قتل اليهود آمالكم فجهادكم في سبيل الله يحيي الآمال والأوطان، وإن قطع الخونة الإمدادات عنكم فلن يستطيعوا منع مدَّ أيديكم إلى الله تدعونه وتتضرعون إليه.
أبشروا بالعزة يا أهل غزة، فالله هو العزيز الجبار القوي الشديد، فلوذوا بجنابه وأنيبوا إليه، ففيكم أسود سينيرون بلدكم بدمائهم؛ لأنهم أهل للشموخ والعزة والدفاع والصمود.
صحيح أنكم في ظلام دامس، وأطفالكم ونساؤكم يئنون ويتوجّعون، ولكم مرضى يستغيثون، ولكن لا تغيروا موقفكم أمام الصهاينة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أربع وصايا ثمينة: الصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى، فقد أمركم الله أن تصبروا على دينكم الذي ارتضاه لكم وهو الإسلام، فلا ترتدّوا على أدباركم في السراء ولا الضراء، ولا في حال الرخاء والشدة ولو مات المسلمون، وأمركم أن تصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم.
وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، فعليكم بالدعاء فإنه أعظم سلاح. الله ينصركم، الله ينصركم، الله ينصركم.
يا أهل غزة، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على ما ابتليتم به لمحزونون، لكم رب يحميكم كما للكعبة رب حماها بطير أبابيل. يا أهل غزة، ادفعوا فيلكم عنكم بالدعاء والوحدة، لا تنظروا يمينًا ولا شمالاً، بل انظروا إلى السماء، إلى الواحد الأحد الفرد الصمد. فصبرًا أهل غزة، فإن فرج الله قريب، والمؤمن مبتلى، ولعل الله أن يفرّج عنكم ويجعل من بعد العسر يسرًا.
أيها المسلمون، ففي غزة الآن مذبحة أو مجزرة، وإن شئت فقل: محرقة. وما زال ردّ الفعل كما هو ولم يتغير، فمن يشجب سيظل يشجب دومًا، ومن يفكر في الرد على المحرقة بالاجتماعات سيظل يبحث عن آلية للاجتماعات، ومن يبكي وينوح سيظل يبكي وينوح.
أنهار من الدماء الزكية تتدفق في شوارع غزة الأبية المحاصرة، أنهار من دماء سالت ولم تجف بعد، الغارات تستهدف كل شيء بجنون وبرغبة وحشية دموية لا مثيل لها، وكأنهم يريدون إبادة هذا الشعب الأبي الشجاع الذي يتمثل الإسلام قولاً وعملاً وسلوكًا.
صعدت أرواح في ليلة واحدة ـ مائتي شهيد على الأقل ـ إلى بارئها فرحين بما آتاهم الله من فضله، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، ويشتكون إلى الله جلد العدو وضعف الأخ وتخاذله بل وتواطؤه عليهم. وأعداد الشهداء تتزايد باطّراد على مرأى ومسمع من الجميع.
فيا أهل غزة، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ، فالله معكم، وتذكروا يوم أن وقف الرسول الكريم ومعه الصديق وحدهما أمام كل قوى الشر والبغي والعدوان، وهمس الصديق لحبيبه محمد قائلا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيطمئنه الصادق المصدوق: ((لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)). كانا وحدهما محاصرين مثلكم، ليس لهما قوة مادية ولا عون بشري، ولكنهما كانا يمتلكان قوة الإيمان بالله والتوكل عليه. فلا تحزنوا يا أهل الصمود في غزة، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ، لا تحزنوا إن حاصرتكم كل قوى الشر والبغي والظلم والقهر والخيانة، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
فصبرًا صبرًا يا أهل غزة، لا تحزنوا إن قطعوا عنكم الطعام والشراب والدواء، فالله مولاكم وهو كافيكم وناصركم، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ. لا تحزنوا فالله معكم، فما ظنكم بمن كان الله معه، فأبشروا بالسكينة والنصر، إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
تذكروا يوم أحد يوم أن تعرض الرسول الكريم ليوم عصيب كيومكم هذا أو أشدّ, وقتل من صحابه سبعون شهيدا، وجرح الكثيرون، وأصيب الرسول الكريم في وجهه وكسرت رباعيته ونزفت الدماء الطاهرة، فنزلت البشارات الإلهية والنفحات الربانية: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. فلا تهنوا ولا تحزنوا وقروا أعينًا، واعلموا أنكم شرف الأمة وفخرها وما تبقى من عزها.
وتذكروا حينما انتهى يوم أحد وكان أشد يوم لقيه المسلمون ومعهم رسول الله وهم خير من سار على وجه الأرض، وباتوا ليلتهم وهم في أدنى درجات القوة، فهم ما بين جريح ومكلوم، وأتاهم من يخوفهم من قريش ويتوعدهم بالمزيد من الضربات ويقول لهم: إن قريشا تجمع الجيوش وتعد العدة لحرب إبادة، فما كان منهم إلا أن لجؤوا إلى الله واعتصموا بحماه وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل، فكان جزاؤهم: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
وها هي التهديدات تتوالى عليكم، تهددكم وتتوعدكم بالمزيد من الضربات والهجمات بالطائرات والدبابات والزوارق، فاعتصموا بالله، وأكثروا من التقرب إليه والتذلل بين يديه، وقولوا مثل قول أسلافكم وقدواتكم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل، هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
فإذا لقيتم عدوكم فاثبتوا وأكثروا من ذكر الله، فنحن لا ننتصر بعدد ولا عدة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وتذكروا إذ تحزب الأحزاب على نبيكم وقرة أعينكم وهاجموا المدينة بأضعاف عددها يوم الخندق، وحاصروها على أهلها واشتد الكرب وعظم الخطب وزاد الخوف، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا، فما هي إلا لحظات قليلة فينتقل المؤمنون من الخوف إلى الأمن، ويثبتون بحسن صلتهم بالله، ويعظم يقينهم بنصر الله عندما يرون المحنة تشتد وحينما يتجمع الأحزاب من كل صوب، وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.
لقد تشابه موقفكم مع موقف سلفكم الصالح، فما تشعرون به اليوم من التعب والنصب والجوع والبرد هو نفسه ما لاقاه الصحابة الأطهار، فاستمِعوا لنبيكم يناديكم كما نادى إخوانكم من قبل، فيقول أنس رضي الله عنه: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: ((اللهم إن العيش عيش الآخرة، فأغفر للأنصار والمهاجرة))، فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا مُحمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا
يا أهل غزة، لا يغرنكم المنافقون وضعاف النفوس، ولا يوهنكم تخاذلهم، فما أكثرهم حولكم في الداخل والخارج! فوجود أمثالهم ضرر لكم ومعوق لعملكم كما قال الله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأََوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
واعلموا أن الشهادة هي أعظم المراتب والقرب وأشرف المنازل، ولا ينالها إلا من يختاره الله سبحانه، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وقال رسول الله : ((للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|