أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى.
أيها المؤمنون، دعونا نبدأ مشوارنا من هناك، من عمق التاريخ، ومن غزوة الأحزاب بالتحديد، لقد خرج وفدٌ من اليهود إلى مكة، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين، ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، وشهدوا بأن الشرك خير من الإسلام، وقد نزل في ذلك قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطَفَان على حرب المسلمين، وهكذا تمكن اليهود من تشكيل تحالف همه حرب المسلمين والقضاء عليهم.
عباد الله، تجمع جيش قريش وحلفاؤها في مرِّ الظهران التي تبعد عن مكة أربعين كيلاً، حيث وافاهم حلفاؤهم من بني سليم وكنانة وأهل تهامة والأحابيش، ثم عزموا على المسير، وفور معرفة المسلمين بزحفهم صوب المدينة بدؤوا يتحركون لمواجهة الطوفان المحدق بهم، وبمشورة من سلمان الفارسي حفروا الخندق ليربط بين طرفي حرتين؛ لأنها كانت منطقة مكشوفة أمام الغزاة، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع أي: ما يعادل كيلوين ونصف الكيلو، وعرضه أربعة أمتار ونصف، وعمقه يتراوح ما بين ثلاثة أمتار ونصف إلى خمسة أمتار، وكلف الرسول أن يحفر كل عشرة من المسلمين أربعين ذراعًا. وتم حفر الخندق بسرعة رغم الجو البارد والمجاعة التي أصابت المسلمين؛ فكان طعام الجيش قليلاً من الشعير يُخلط بدهن متغير الرائحة لِقدَمه، ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكريه ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحيانًا لا يجدون سوى التمر، وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعامًا، لكنها حرارة الإيمان تطغى على البرد والجوع، فأتموا حفر الخندق في ستة أيام .
أيها المسلمون، ويبرز في هذه الغزوة موقف المنافقين أيضًا كشأنهم في كل شدة ونازلة تحل في ديار الإسلام، موقف الجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وَرَدَ ذلك في القرآن الكريم بأفصح عبارة وأدق تفصيل، قال الحق جل وعز: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا الآيات.
وظل زعيم اليهود حيي بن أخطب يواصل اتصالاته المكثفة لتعزيز قوة التحالف حتى أتى كعب بن أسد القرظي اليهودي، وكان بين بني قريظة والمسلمين عهد، فلم يزل به حيي بن أخطب حتى أعلن كعبٌ نقضه للعهد والانضمام إلى التحالف.
وبدأ الحصار، وعظُم البلاء على المسلمين، واشتد الخوف والبرد والجوع حتى ظن المؤمنون كل ظن. هجمات تشن في كل وقت، وضربات موجعة متتالية، وحصار مضروبٌ عليهم، وتوهين المنافقين وتخذيلهم، وبثُّ الشكوك والرِّيب في وعد الله ووعد رسوله ، وهروب مستمر في الجبهة، وتحريض غيرهم على الهروب أيضًا، لكن أشد كرب كان على المسلمين نقضُ بني قريظة عهدهم ليفتحوا ثغرةً واسعة تمكّن العدو من ضربهم من الخلف.
لقد نجم النفاق حتى قال أحدهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. في هذه الأثناء يسر الله أمرًا وهيأه، أن أسلم نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله : ((إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)). فانطلق نعيم بن مسعود رضي الله عنه، ولا يزال ينشر بين الأحزاب الفتنة حتى هدم ما كان بينهم من الثقة، وأصبحت كل قبيلة تشك في الأخرى، وذلك كله بسبب ذلك المؤمن الذي لم يمض على إسلامه إلا القليل.
معاشر المسلمين، في هذه الأثناء وفي هذا الجو المشحون وبعد مرور عشرين ليلة أو أكثر على هذه الحالة المكروبة ينزل الفرج من السماء، يأتي النصر من عند من يملكه وبيده ملكوت السماوات والأرض وله جنود لا يعلمها إلا هو سبحانه، خذل الله الأحزاب، وبعث عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، حتى تكفَّأت قدورهم وسقطت خيامهم، وانسحبوا يجرون ذيول الهزيمة والعار دون أن يحققوا أي شيء من أهدافهم المعلنة والمبطنة. وتُوِّج هذا النصر للمسلمين بنزول سورةٍ تحمل اسم هذه المعركة سورة الأحزاب، كشفت جوانب لم يدركها المسلمون وأظهرت للنور أسرارًا ونوايا ومؤامرات لأعداء الإسلام في الداخل والخارج.
فهذا بعض ما حصل في غزوة الأحزاب: تكالب للأعداء وحصار قاتل ثم نصر من عند الله عزيز.
عباد الله، يوم أمس الخميس نفّذ الطيران الحربي الصهيوني غارة جوية على منزل القيادي البارز في حركة حماس الأستاذ الدكتور الشيخ نزار ريان، ووصل عدد الشهداء إلى 16 شهيدًا بينهم زوجاته الأربع وأحد عشر من أطفاله من الذكور والإناث الذين تتراوح أعمارهم من العام إلى الاثني عشر عامًا.
ولقد وصلت آخر الإحصائيات إلى أربعمائة وعشرين شهيدًا وأكثر من ألفي جريح، ولا يزال العدو في عدوانه، ولا يزال الجرح ينزف، ولا يزال القصف على إِخواننا في غزة مستمرا، بالإضافة إلى ما يتعرض له منذ مدة طويلة من الحصار والتجويع، وَما يتعرضون له اليوم من إبادةٍ جماعيَّةٍ وقصفٍ متواصلٍ وتحطيم للمنازل وَالمدارس والمستشفياتِ والمتاجر بل والمساجد أيضًا وإحراق للمصالح والمزارع، حتى أصبح الخارج من بيته لا يُؤمل الرجوع إليه، والباقي في بيته لا يؤمل الخروج منه، مع الترويع والحرب النفسية والإعلامية.
أمة الإسلام، لقد أتى على مسلمي فلسطين سنون كثيرة وهم مرابطون في ثغور الإباء مدافعون بأموالهم وأنفسهم عن واسطة العقد في بلاد الشام، عن البلاد التي كتبت تاريخها بدماء الصحابة، وصورت بعد فضل الله بسيوفهم، تسلَّمها أبو حفص عمر ثم تتابعت حكومات الإسلام في أرضها وتعالت رايات الإيمان في ساحاتها
يستعذبـون الْمـوت قبل لقـائه وهم إذا حمـي الوطيس تدفقـوا
ضمّوا المصاحف للصدور وأسرعوا ووجوههم فيهـا الشهادة تشرق
أيها المؤمنون، إن فلسطين ستبقى في مخيلتنا لا تغادرها أبدًا، فهي أولى القبلتين وثالث المسجدين وفتح الفاروق وصلاح الدين، وعدنا الرسول أن نهزم اليهود بها، وأن ننصر حتى بالحجر والشجر، وهي علامة من علامات تمسك المسلمين بإسلامهم، ودليل محبة المؤمنين لدينهم، وواسطة العقد على صدر أمة المؤمنين، إنها فلسطين، نكبة النكبات في زمن التخاذلات، فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟! وماذا قدمنا من تضحيات؟! وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبّت ثم انطفأت، ستون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود في فلسطين، ستون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نيران احتلال الصهاينة اليهود، ستون سنة وأمتنا من نكبة إلى نكسة ومن تشرذم إلى خلافات، ستون سنة وأمتنا الإسلامية تُنهش من أطرافها وأوساطها، ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.
لقد أكدت الأحداث أنه لا أحد يملك سلطة القرار الفلسطيني سوى الجماهير الفلسطينية، ولن يوقف هذه الجرائم إلا الجهاد. إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة، قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود، قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ [الحج: 39، 40]، وقال سبحانه: إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ.
وإن النبي امتدح المجاهدين هنالك بقوله : ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك))، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) رواه أحمد.
والفوز كل الفوز للمؤمنين الصادقين بوعدٍ من رسول الله ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر, فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم, يا عبد الله, هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله, إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
|