ميثاق الظلم والعدوان (حصار المسلمين الأوائل في شعب أبي طالب): اجتمع مشركو قريش وتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلّموا إليهم رسول اللَّه للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق: أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلّموا محمدا للقتل.
تم هذا الميثاق، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب، وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة. واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعامًا يدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغ بالمسلمين الجهد، والتجؤوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الاشتراء.
ها هو التاريخ يعيد نفسه: ها هي سياسة الحصار الجاهلية تظهر من جديد، وها هي إسرائيل دولة الاحتلال تطبّق حصارا ظالما على أزيد من مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة الصامدة؛ عقابا لهم على اختيارهم لحركة حماس، لعلّ هذا الشعب الجائع المحاصَر الذي يفتقد أدنى مقوّمات العيش ينتفض ضد من اختارهم بصورة شرعية، ويسقط من وضع ثقته فيهم. هذا الحصار الذي بدِئ تنفيذه منذ ستة أشهر وبلغ ذروته خلال هذا الأسبوع.
لقد كان الشاعر العربي صادق التعبير موفقا حين قال:
قتل امرئ فِي غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كـاملٍ مسألة فيها نظر
إن قتل أو أسر جندي إسرائيلي ـ وهو الغاصب المحتلّ المعتدي) ـ تقوم له الدنيا ولا تقعد، وتتوالى الإدانات والتهديدات والاستنكارات، أما قتل شعبنا في غزة بالتجويع والحصار ومنع الدواء والغذاء والتدفئة والوقود وبالاستهداف المباشر وقصف المنازل فيواجه بالصمت المطبق؛ لأن الأمر فيه نظر.
أيها الإخوة والأخوات، لقد طال حصار النبي ومن معه في شعب أبي طالب ثلاثة أعوام كاملة، وكانت قريش بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهًا لها، وعلى رأسهم خمسة سعوا لنقض الوثيقة الظالمة الجائرة وهم: هشام بن عمرو، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وزهير بن أمية البختري.
لقد تم نقض الصحيفة وفكّ الميثاق الظالم عن النبيّ وصحبه وعشيرته في شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وفي شهر الله المحرم أيضا كان الكسر الجزئي للحصار، والذي صنعه أهل غزة بأياديهم الشريفة قبل يومين، بعد أن خذلهم العالم وخذلهم المتشدّقون بحقوق الإنسان، فلعله يكون بداية فك الحصار وبداية انفراج الأزمة عن أهلنا وإخوتنا المظلومين هناك.
إن وضع إخوتنا في فلسطين كلّها وفي غزة اليوم يملي علينا نحن المسلمين أينما كنا واجبات كثيرة، نذكر منها:
الواجب الأول: المساندة المالية:
يجب على المسلمين جميعا أفرادا وجماعات ومنظمات وحكومات أن يكسروا الحصار عن أهل غزة خاصة وفلسطين عامة ماليا، ولقد جاء ذكر الجهاد بالمال مقدما على الجهاد بالنفس في القرآن الكريم في أكثر من موضع، يقول تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41].
وفلسطين وغزة أرض جهاد ومقاومة، وإخوتنا في حاجة ماسة لكل شيء، هم في حاجة للغذاء والكساء والدواء، وهم في حاجة لدعم المقاومين وتجهيزهم، فعن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ((مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا)) رواه البخاري.
والمسلم الحق لا يتردّد في البذل والعطاء في مواطن الجهاد والفداء، هَا أَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم [محمد:38].
الواجب الثاني: المساندة الفعلية من خلال المواقف الصحيحة الجريئة:
إذا كانت مروءة العرب قد دفعت مشركي بني هاشم وبني المطلب أن يقفوا في خندق واحد مع النبي وأصحابه أثناء الحصار، ودخلوا معهم في هذه المقاطعة حتى كان يسمع أصوات غير المسلمين من النساء والأطفال والصبيان يتضاغون من الجوع، ألا نتعلم من هذا المساندة درسا يوجهنا نحو الموقف الذي تمليه المروءة على العرب والمسلمين قاطبة تجاه أهلهم في فلسطين؟! هل نحب أن نكون لإخوتنا في غزة كما كان أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب عموما لمحمد ومن معه من المسلمين، يجري علينا ما يجري على إخوتنا، ونعاني مما يعاني منه إخوتنا، ولا نخذلهم ولا نسلمهم لأعدائهم يفعلون بهم ما يشاؤون، أم نحب أن نكون كأبي لهب الذي حالف الظلمة ضد الحق وضد أهله ورحمه؟!
إذا كان خمسة من مشركي قريش قد سعوا فى نقض صحيفة مقاطعة النبي وأصحابه، فإننا نتساءل بحرقة: ألا يوجد في الأمة المسلمة مثل هؤلاء الخمسة (هشام بن عمرو، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وزهير بن أمية البختري)؟! الآن يجب أن ينبري مثل هؤلاء الخمسة الأشراف الأحرار من ذوي المروءات من كبار الأغنياء والوجهاء السياسيين والقادة والمسؤولين الحزبيين ممن يسعى لتقطيع وتمزيق هذا الحصار على الشعب الفلسطيني عامة وعلى أهل غزة خاصة، وعليه يجب كسر الحواجز التي وضعت على المعابر ومنافذ الحياة لإخواننا في غزة.
والمؤسف حقيقة أن هذا الحصار ما كان ليتم وغزّة تتمتع بعمق عربي إسلامي يتمثل في الحدود المشتركة مع مصر، هذا الاتصال الحدودي البري بين غزة ومصر المفروض منه أن يكسر كل حصار ويحطم كل مخطط لعزل إخوتنا في غزة وتجويعهم والتضييق عليهم، وأن يفشِل كل محاولة لإذلال الشعب الفلسطيني وتركيعه حتى يرضخ لرغبة الصهاينة ومن يحميهم ويدعمهم فيقبل بالحلول الاستسلامية المنقوصة المشوهة التي دفع الرئيس الراحل ياسر عرفات حياته ثمنا لرفضها، تلك الحلول الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وعلى رأسها مسألة القدس ومسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم. إنه لولا الاتفاقية القائمة بين مصر ودولة الكيان الصهيوني ما نجح هذا الحصار.
إن وقوفنا كالمتفرج على إخوتنا في غزة عاجزين عن القيام بأي شيء لَظلم شديد لهم، وما أشد ظلم الأهل والأحباب على النفوس، كما قال الشاعر العربي:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضـة على النفس من وقع الحسام المهند
إن ديننا الحنيف ينهانا عن خذلان إخوتنا المسلمين وظلمهم وتركهم لقمة سائغة أمام عدوهم مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
إن من المواقف التي يجب علينا القيام بها دعما لإخوتنا تلك المسيرات السلمية والتظاهرات الشعبية والمهرجانات الخطابية الداعمة لهم والمدافعة عن حقهم في المقاومة واسترداد ما سلب منهم، وهي ممارسات لا شك ترفع من معنويات إخوتنا في فلسطين وتزيد من همتهم، وما أحوجهم إلى رفع المعنويات وإعلاء الهمم، كما تضغط بشكل أو بآخر على النظام الدولي وعلى العدو للتخفيف من وطأته على أهلنا في الأرض التي بارك الله حولها.
الواجب الثالث: المقاطعة الاقتصادية للبضائع الصهيونية والأمريكية غير الضرورية:
إن محاربة السلوك الاستهلاكي للمنتجات الصهيونية والأمريكية جهاد اقتصادي أفتى به عدد كبير من علماء الأمة، وذلك في كل ما له بديل وفي كل ما لا ضرورة في استهلاكه. وقد كان للمقاطعة الاقتصادية دورها الحاسم في طرد الاستعمار من جميع بلدان العالم الإسلاميّ وغيره خلال القرن الماضي.
الواجب الرابع: المساندة الإعلامية:
إنها دعوة لذوي الأقلام الحرة والنفوس الأبية والحمية الإسلامية والغيرة العربية أن يعبّروا عن الرفض لهذا القهر والظلم الأمريكي الصهيوني لأمتنا عامة وإخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان وغزة خاصة، نريد أن يكتب أصحاب الأقلام في الصحف والشعراء والأدباء والقصاصون والرواة في دواوينهم والمنشدون في أناشيدهم والمسرحيون في عروضهم والفنانون والرسامون في لوحاتهم؛ وبالمناسبة نذكر أن جمعية (Fair Event) المتواجدة بفرنسا دعت عن طريق وزارة التعليم الفرنسية إلى مسابقة دولية في الرسم في نسختها لعام 2008م عنوانها: "ارسم لي السلام"، والمنظمة تحت شعار التسامح واكتشاف الآخر والتي تسعى إلى تجميع الأطفال الفائزين من عرب وإسرائيليين وأوروبيين في باريس لفترة معينة يتعارفون فيها فيما بينهم ويتعايشون. في هذا الوقت العصيب الذي يمر به أطفال فلسطين وأطفال غزة وهم يعانون من كل ألوان المعاناة وأصنافها مما لا يعلم مداه إلا الله، يطلب من أطفالنا في المغرب في المدارس الابتدائية والإعدادية المشاركة في هذه المسابقة التي تحمل عنوان "ارسم لي السلام"، وكان من الأجدر في هذه الظروف أن ننظم لأطفالنا مباراة في الرسم تحمل عنوان: "ارسم لي الغطرسة الصهيونية والظلم الدولي لأهل غزة"، أو: "ارسم لي الحق الفلسطيني في أرضه"، أو: "ارسم لي كيف تشعر بمعاناة أهل غزة تحت الحصار".
لا بد أن نحسّ بكافة المسلمين من حولنا، ونهتم بأمورهم، فقد روى الطبراني عن حذيفة أن النبي قال: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحًا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم)).
يجب أن تنطلق حملة إعلامية تواجه هذا الكذب المفضوح الذي يظهر الصهاينة المعتدين بمظهر الضحية والفلسطينيين المظلومين بمظهر الجلاد. إن هذه المساندة الإعلامية ثغر من ثغور الجهاد صارت اليوم من ضرورات الواقع، مواجهة لهذا القصف الإعلامي الصهيوني الذي يزيف الحقائق ويثير الفتن ويدعو إلى الرذيلة.
الواجب الخامس: المساندة المعنوية:
ولعل هذا النوع من المساندة يمثل الحد الأدنى الذي ليس وراءه حبة خردل من إيمان، وتتمثل في مضاعفتنا للصيام وإكثارنا من القيام، وأن نجأر بالدعاء إلى الملك العلام أن يكشف البلاء عن أهل غزة رمز العزة والإباء، ولعل دعاء المخلصين في مختلف بقاع الأرض لإخوانهم في فلسطين أن يكون أمضى من حجارتهم وبنادقهم وصواريخهم في أعدائهم من الصهاينة المعتدين. ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام في معركة بدر وقد وعده ربه بالنصر يتوجه إلى الباري جل وعلا بالدعاء قائلا: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا)).
كيف تكون مسلمًا تعيش آمنًا مطمئنًا ولا يشغلك حال مَن حولك؟! أين نحن من حديث النبي : ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رواه مسلم.
وإنه لمن المهمّ أن تتحوّل هذه المساندة بكل أشكالها وبشتى صنوفها وأنواعها إلى سلوك فرد وأسرة ومجتمع، حتى يأذن رب الأرض والسموات بالفرج القريب رغم أنف الصهاينة وأعوانهم من المتخاذلين والمتخاذلات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|