أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الإخوة، كلما دارت الأيام وأقبل موسم الحج من كل عام تستعد النفوس مُسلمةً مؤمنةً لتلبية نداء الله ودعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام، مقتدية بنبيها محمد ، وسالكة طريق المؤمنين الذين أمّوا هذا البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.
أجيالٌ مضت وطافت وأفاضت ونحرت وسعت، أممٌ تتلوها أمم، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]. قطعوا الفيافي والققار، واجتازوا الجبال والوديان، وعبروا البحار والأنهار، أو طاروا على متن الهواء قاصدين بيت الله الحرام.
روى الحاكم من حديث بن عباس قال أتى رسول الله على وادي الأزرق فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: وادي الأزرق، فقال: ((كأني أنظر إلى موسى عليه السلام مهبطا له جوار إلى الله بالتكبير))، ثم أتى ثنية فقال: ((كأني أنظر إلى يونس عليه السلام على ناقة حمراء جعدة خطامها ليف وهو يلبي، عليه جبة صوف))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا، منهم موسى عليه السلام، كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان، وهو محرم على بعير من إبل شنوءة، مخطوم بخطام من ليف، له ضفيرتان)).
أيها الإخوة، من حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل الحج بواد غير ذي زرع؛ ليكون القصد للنسك والعبادة لا للتنزه والسياحة، بل لإقامة شعائر الله وتعظيم حرماته، وجعل شعار الحج التوحيد دعوة للعقيدة الصافية، وجعل لباسهم واحدا يستوي فيه الغني والفقير ويرمز للوحدة والقوة.
إن هذه الأمة تشهد قوتها في تجمعها وتدرك عزها في ترابطها بحبل الله المتين. من هنا نعلم ـ أيها الإخوة ـ أن هذا البيت هو الملتقى الجامع لهذه الأمة، يتلاقى فيه المسلمون متجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، مُتخلين عن كل سِمةٍ إلا سمةَ الدين. إن مشاهد الحج لتؤكد أن رابطة الإسلام هي الرابطة الوثقى، وأن نسبه هو النسب الثابت.
ولهذا صار الحج من أفضل الأعمال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري ومسلم.
والحج سبب لتكفير السيئات ورفعة الدرجات، يغسل الخطايا ويمحو السيئات، قال : ((من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري ومسلم. والمبرور من الحج ليس له جزاء إلا الجنة.
والحج يهدم ما كان قبله من الأعمال السيئة، فعن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله: ((أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)) رواه ابن خزيمة.
والحج جهاد لا قتال فيه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ فقال: ((لكنّ أفضل الجهاد حج مبرور))، وقال : ((جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة)).
وهو سبب للغنى وإجابة الدعاء، قال : ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة))، وفي رواية: ((فإن متابعة ما بينهما يزيدان الأجل وينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث)) رواه الترمذي، وعن جابر قال: قال رسول الله : ((الحجاج العمار وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) رواه البزار وهو حسن.
أيها الإخوة، في الحج منافع دنيوية وأخروية، في شهود هذه المناسك منافع أخروية يجدها من حج بيت الله مخلصا لله تعالى لا رياء ولا سمعة ولا فخر، فالإخلاص أصل من الأصول وأساس من الأسس التي يقوم عليها الحج، فعن أنس قال: حج رسول الله على رحل رث وقطيفة خَلِقة لا تساوي أربعة دراهم، ثم قال: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)) رواه الدارقطني.
والمال الطيب من النفقة الحلال التي لا يقبل الله غيرها، ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)).
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
واعلم أن النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله، فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف)) رواه أحمد وهو حسن.
أيها الإخوة، كلٌ من المسلمين يرجو الحج المبرور، إن الحج المبرور إطعام الطعام وطيب الكلام وإفشاء السلام، غذاءٌ للأبدان بالطعام، وغذاءٌ للأرواح بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والدعوة الصادقة.
ألوف ومئات يؤمون هذا البيت، قد أنفقوا ما يملكون ليصلوا إلى هذا البيت، فهل يجدون من القِرى من أهل الحرم؟! إننا نرى ـ ولله الحمد والمنة ـ التوزيع المجاني للمياه والأطعمة والمشروبات والمأكولات، ولكن دعوة للمزيد ونفع النفس في هذا الموسم العظيم.
أيها الإخوة، إن من الناس من لا يريد مشقة تعترضه في حجه، وهذا لا يمكن حصوله، ولكن المشقة تختلف باختلاف الناس وقدراتهم وأحوالهم، والمشقة الحاصلة من العبادة فيها أجر وثواب، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لكِِ من الأجر على قدر نصبك ونفقتك)) رواه الحاكم وهو صحيح. وإن المسلم الحق من يجد المتعة في مشقة العبادة، فيتسلح بسلاح الصبر ورجاء الثواب.
والعلم بمناسك الحج وآدابه سلاح يتسلح به الحجاج في مقاومة الجهل والأخطاء، وسبيل للقبول، وأداء لهذه العبادة كما فعلها رسول الله ، وقد أمرنا المصطفى بذلك فقال: ((خذوا عني مناسككم))، فالتقليد الأعمى الذي يفعله بعض الحجاج "رأيت الناس يفعلون شيئا ففعلته" خطأ يجب أن يصحح، فكتب العلماء الموثوقين المشهورين بالعلم كثيرة ولله الحمد، وكذا أشرطتهم، فما على المسلم إلا التحري والاستعداد بالقراءة والسماع والتعلم والسؤال عما أشكل، فإنما شفاء العي السؤال.
أيها الإخوة، إن رحلة الحج عبادة وغذاء روحاني ومدد رباني يشهده الحجاج، فيجدون حلاوة الإيمان، ويشعرون بلذة الطاعة، ويتذوقون طعم العبادة، فيزيد الإيمان، ويرق القلب، وتدمع العين. ومن الناس من هو بالعكس من ذلك، فالحج عنده عادة ولهو وغفلة وضياع للأوقات واتباعٌ للشهوات، فلا يحرم المسلم نفسه فضل ربه، وليستعد بالصحبة الصالحة والرفقة المتعلمة المتأدبة بآداب الإسلام وأخلاقه، يتعاونون على البر والتقوى، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
وليتعجل الحج من يتكاسل عن أداء الفريضة؛ فإنه لا يدري ما يعرض له من الشواغل، قال : ((تعجلوا الحج ـ يعني الفريضة ـ فأحدكم لا يدري ما يعرض له)). وإنك لتعجب من أناس يقطعون بالأسفار ويتكاسلون عن أَداء الفريضة والإتيان بهذا الركن العظيم.
|