أما بعدُ: فيا عبادَ الله، اعلموا أن أصدقَ الحديثِ كلامُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
يقول اللهُ جلَّ وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يا أيُّها الناسُ، إنَّ اللهَ قدْ فَرَضَ عليكُم الحَجَّ فحُجُّوا)). فالحَجُّ والعُمْرَةُ ـ أيها المسلمونَ ـ من أفضلِ العباداتِ وأجلِ القُرُبَاتِ، بهما تُحَطُّ الأوزارُ، ويَثقُلُ ميزانُ العبدِ بالحسناتِ، ويُرفَعُ في الجنةِ إلى أَعلى الدرجاتِ، يرجِعُ أقوامٌ من تلكَ المشاعِرِ المقدّسةِ إلى بيوتِهم ليس عليهم ذنوبٌ، كيومِ ولدتْهُم أمهاتُهُم، قال رسولُ اللهِ : ((من حَجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رَجَعَ من ذنوبِه كيومِ ولدتْهُ أمُّه)). والحَجُّ طريقٌ إلى الجنةِ كما قالَ : ((الحَجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنَّةَ))، وفي السُنَنِ من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنَّ رسولَ اللهِ قالَ: ((تابِعُوا بين الحَجِّ والعُمْرَةِ؛ فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ كما ينفِي الكيرُ خَبَثَ الحديدِ))، وقال رَسُولُ اللَّهِ : ((الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنْ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ)).
ولقدْ عَرَفَ الصحابةُ والتابعونَ والسلفُ الصالحونَ هذه الفضائلَ، فكانتْ لهم عجائبُ في الحرصِ على التَّرَدُّدِ على تلكَ المشاعرِ والإكثارِ من الحَجِّ والعُمْرةِ مَعَ بُعْدِ المسافةِ وصُعُوبةِ الوصولِ وخَوْفِ الطريقِِ وقِلَّةِ ذاتِ اليدِ، لكِنَّ حالهَم كما قالَ الأولُ:
روحٌ دعَاها للوِصالِ حبيبُها فسعتْ إليهِ تُطِيعُه وتجيبُهُ
فهذا نافعٌ يقولُ: سافرتُ مع عبدِ الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِضْعًا وثلاثينَ حِجةً وعُمْرةً. وهذا الحسنُ بنُ عليٍ رضي الله عنهما يَحُجُّ خَمْسَ عشْرَةَ مرةً، وربَّما حَجَّ ماشِيًا من المدينةِ إلى مكةَ، ونجائِبُهُ تُقادُ معه. وهذا الأسودُ بنُ يزيد النَّخَعِيُّ رضي اللهُ عنه زارَ البيتَ ثمانينَ مرةً حاجًا أو معتمرًا. وروى الإمامُ الذهبيُّ في السِيَرِ عن ابنِ المسيِّبِ رحمه اللهُ أنه قالَ: "حجَجْتُ أربعينَ حِجةً"، وكان سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ رحمه اللهُ يُحْرِمُ في السنةِ مرتينِ، مرةً للحَّجِ ومرةً للعُمْرَةِ. بل في زمَنِنَا هذا ذكَرُوا أنَّ سماحةَ الشيخِ عبدَ العزيزِ بنَ بازٍ رحمه اللهُ حَجَّ أكثرَ من اثنتينِ وخمسينَ حِجَّةً.
وكان هؤلاءِ الصحابةُ والتابعونَ والصالحونَ رحمهم اللهُ مع ذلكَ في غايةٍ من الخشوعِ للهِ وتعظيمِ شعائرِ اللهِ وحُرماتِه أثناءَ الحَجِّ، في عبادةٍ وذكرٍ ودعاءٍ وتعليمٍ ونفعٍ للناسِ، قال الحريريُّ رحمه اللهُ: أحرَمَ أنسُ بنُ مالكٍ رضي اللهُ عنه من ذاتِ عِرْقٍ، فما سمعناهُ متكلمًا إلا بذكْرِ اللهِ حتى حَلَّ، ثم قالَ: يا ابنَ أخي هذا الإحرامُ.
وهذا أحدُ الصالحينَ رحمه اللهُ تاقتْ نفسُه إلى الحَجِّ لكنَّه فاتَه، فأنشَأَ يقولُ:
يـا راحلـيـنَ إلـى منى بقيـادِي هيجتمـو يومَ الرحيـلِ فُؤادِي
وحَرَمْتُمُـو جفني المنـامَ بِبُعدِكُـم يـا ساكنينَ الْمُنحنى والـوادِي
ويلـوحُ لي مـا بينَ زمزمَ والصفَـا عندَ المَقَامِ سمعتُ صوتَ مُنـادِي
ويقـولُ لي يا نائمًـا جِدَّ السُّـرَى عرفاتُ تجلُو كلَّ قلبٍ صـادِي
تاللهِ ما أحلـى المبيـتَ علـى منًى فِي ليـلِ عيدٍ أبركِ الأعيـادِي
ضَحَّوْا ضحايـاهُم وسالَ دمـاؤُها وأنـا المتيَّمُ قد نحرتُ فـؤادِي
لبسوا ثيابَ البيضِ شاراتِ الرِّضَـا وأنا الْملوَّعُ قد لبستُ سَوادِي
يـا ربِّ أنـتَ وصلتَهُم صلني بهم وبِجـودِكُم يا ربِّ فُكَّ قِيادِي
أعوذ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
باركَ اللهُ لي ولكم في القُرْآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ من كُلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
|