أما بعد: فقد خلق الله الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا ويتآلفوا ويتعاونوا على البر والتقوى ويدفعوا الإثم والعدوان عن بعضهم بعضًا، ولقد أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا إخوة متحابين تسود بينهم علامات العطف والتراحم، فلا يعتدي كبير على صغير، ولا يظلم قَوِيٌّ ضعيفًا، ولا يهضم متسلطٌ حقوقَ الآخرين. ولقد حرّم الظلم على عباده كما حرمه على نفسه جل وعلا، كما ورد في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
فالظلم مَرَاتِعُهُ وخيمة وعواقبه أليمة، وما تظالم قوم وحصل فيما بينهم عدوان وطغيان إلا حلّ بهم الهلاك والخسران وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. وقد ذكر الله عز وجل في القرآن العظيم أحوال الأمم الغابرة حينما طَغَتْ وبَغَتْ وظَلَمَ بعضُها بعضًا وفَسَقَتْ عن أمر ربها ورسله كيف عذبها عذابًا نكرًا وأخذها أخذًا أليمًا جزاء فعلها الظالم وعدولها وخروجها عن أمر ربها، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقال عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [ الطلاق: 8-10].
الظلم هو مجاوزة الحدود التي شرعها الله عز وجل، حيث يؤدّي ذلك إلى التجاوز والتعدي والتطاول على الحقوق والحرمات التي شرع الله ورسوله احترامَها وعدمَ التعدي عليها وتجاوز حدودها. إن الظلم لا يصدر إلا عن شخصيات حاقدة لئيمة، رديئة الطبع، خبيثة النفس، منتقمة لأحقاد دفينة في سويداء قلوبها، حيث قد ضعف فيها الوازع الديني والخلقي، وقست فيها القلوبُ، فلم تخشَ لله مقامًا ولا انتقامًا.
والظلم في حقيقته وواقعه تَحَدٍّ لله العلي القدير، وتطاول على أحكامه التي شرعها لحفظ الكرامة وتوفير العدالة وتوطيد الأمن والاستقرار، وهو تجاوز للحق إلى الباطل، وترك للعدل، واتباع للهوى، وتخبط في طريق التسلط والقهر والاعتساف، ولو فكّر العاقل مليًا وراجع نفسه لعلم أن الظلم أَمْرٌ تنكره العقول السليمة وتَمُجُّهُ النفوسُ الكريمة ويَأْبَاهُ الْخَلْقُ جميعُهم؛ لأن الظلم يُشَوِّهُ الحياةَ ويعكِّر صَفْوَهَا ويُحِيلُها إلى جحيم مُتْرَعٍ بالألم والشقاء، والعباد لا يطيقون للظلم احتمالاً، ولا يستطيعون عليه صبرًا؛ لذلك فهم يلجؤون إلى الله بِذُلِّهِمْ وانكسارهم ويَجْأَرُونَ إليه بدعائهم ويستنجدون بقوته وجبروته من ظلم الظالم وطغيانه، فتصعد دعواتهم تخترق السماوات العلا، فيقسم الله بعزته وجلاله أنه سينصر المظلوم إن عاجلاً أو آجلاً، قال رسول الله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه لليمن وأوصاه بأمور ومنها قوله : ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)) رواه الترمذي وابن ماجة والطبراني، وقال : ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)) رواه الترمذي واللفظ له والبخاري وابن ماجة والطبراني رحمهم الله.
أما الظالم فإن ظلمه يعود عليه بشرِّ العواقب في الدنيا والآخرة، ويكون ظلمه ظلمات عليه يوم القيامة، قال رسول الله : ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
وليعلم المسلم أن مما يجب عليه نحو أخيه المسلم دفع الظلم عنه إذا رآه مظلومًا ويقف ضدّ الظالم مهما كانت منزلته ومنصبه ومرتبته، وذلك بحسب مقدرة كل شخص ومكانته، فإن ذلك مما أوجبه الإسلام لتحقيق العدالة ولكي يظهر العدل وينتصر الحق ويقمع الجور والظلم، وإنْ لمْ يكنْ ذلك فعندها تحل النقمة والعذاب من الله عز وجل، قال رسول الله : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) قال: أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟! قال: ((تحجزه عن ظلمه فذلك نصره))، وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟! قال: ((تأخذ فوق يده)) رواه البخاري رحمه الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا يقفنَّ أحدُكم موقفًا يُقتل فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضر حين لم يدفعوا عنه، ولا يقفنّ أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)) رواه الطبراني والبيهقي بإسناد حسن.
وعلى المسلم أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله عندما تحلُّ به أيُّ بَلِيَّةٍ ومَظْلَمَةٍ وفتنة من فتن الدنيا ليجد الأنس والراحة والطمأنينة وينشرح صدره برجوعه وإنابته وتضرعه إلى الله عز وجل العزيز المقتدر، وأنه سوف يقتص له من الظالم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم لا ينفع الظالمَ طغيانُه وظلمُه وتَجَبُّرُهُ وقَهْرُهُ لعباد الله، يوم الحسرة والندامة، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52]. فعلى المظلوم أن يستشعر أنَّ اللهَ نَاصِرُهُ ولو بعد حين، وأنه ليس بغافل سبحانه عما يعمله الظالمون، وإنما يؤخرهم ويملي لهم حتى إذا أخذهم لم يُفْلِتْهُمْ.
وليعلم المسلم أن في مظلمته وتحمله للظلم من الظالم خيرًا له، وعليه أيضًا أن يعلم علم اليقين بأن حقه سوف يُقَادُ له من الظالم يوم القيامة، فعليه أن يصبر ويحتسب ليكون خيرًا له، وإن عاقب بمثل ما عوقب به فلا بأس عليه، ولكن الصبر والعفو أفضل وأرفع للدرجات في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل، قال الله جل جلاله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 39-43]، وقال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126].
وسوف يكون القصاص العادل وتأدية الحقوق من الحسنات أَخْذًا من الظالم وإعطاءً للمظلوم إضافة لرصيده وزيادة في الميزان ووضعًا من السيئات التي على المظلوم، حيث تطرح في ميزان الظالم إذا لم تكن له حسنات، قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم، وقال : ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين)) رواه البخاري ومسلم. قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43]. قال : ((لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الْجَلْحَاء من الشاة الْقَرْنَاء)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، يجب علينا الحذر والابتعاد عن الظلم لعباد الله في شتى صوره وأشكاله، وعلينا أن نجتنب الدخول على الظلمة ومخالطتهم ومساعدتهم ومداهنتهم؛ لئلا يحل بنا العذاب، بل يجب علينا أن نبغضهم ونعاديهم لله عز وجل، قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113]، ويقول تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 22-24]، قيل في معنى أزواجهم أي: أمثالهم وأشباههم وأتباعهم من أعوان الظلمة. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227].
|