.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الحياء

5767

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

خصال الإيمان, مكارم الأخلاق

عبد الرحمن بن الصادق القايدي

جدة

29/2/1426

جامع الأنصار

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل الحياء. 2- الحياء بين العبد وربه. 3- الحياء بين الناس. 4- عديمو الحياء. 5- مظاهر مخلّة بالحياء في حياة الناس اليوم. 6- الحياء المذموم.

الخطبة الأولى

أيها الناس، اتقوا الله تعالى واستحيوا منه حق الحياء، واعلموا أنه رقيب عليكم أينما كنتم، يسمع ويرى، فلا تبارزوه بالمعاصي وتظنوا أنكم تخفَون عليه، فإنه يسمع السر والنجوى.

عباد الله، إن الحياء خصلة حميدة، قال عنه النبي : ((إن الحياء لا يأتي إلا بخير))، وأخبر بأنه شعبة من شعب الإيمان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة ـ أو: بضع وستون شعبة ـ، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). وقد مر رسول الله برجل يعظ أخاه في الحياء، أي: يلومه عليه، فقال: ((دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله "والحياء من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح".

فحقيقة الحياء أنه خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. والحياء يكون بين العبد وبين ربه عز وجل، فيستحي العبد من ربه أن يراه في معصية أو مخالفة شرعية، ويكون الحياء أيضًا بين العبد والناس.

فالحياء الذي بين العبد وربه قد بيّنه في الحديث الذي جاء في سنن الترمذي أنّ النبي قال: ((استحيوا من الله حق الحياء))، قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله، قال: ((ليس ذَلكم، ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياة)).

بين في هذا الحديث علامات الحياء من الله عز وجل في حفظ الرأس وما وعى، وفيه أهم الحواس، فيه اللسان، فعليه أن يحفظه من الغيبة والتحدث عن أعراض الناس، وفيه العين، فليحفظها عن النظر إلى الحرام في كل اتجاه، وفيه السمع يحفظه عن السماع المحرم سواء كان عن الناس أو سماع الأغاني المحرمة والماجنة والتي تؤدي إلى الفسوق والتبجح، وكذلك يحفظ البطن وما حوى عن أكل الحرام أو إدخال ما هو ضار، وأن يكون دائمًا متذكرًا للموت، وأن جسمه هذا سوف يبلى يومًا من الأيام، عند ذلك يقصر الأمل في الدنيا، ولا ينغمس فيها فتنسيه الآخرة ويفاجئه الموت، فمن فعل كل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.

أما حياء الربِّ من عبده فهو حياء كرم وبرٍ وجود، فإنه تبارك و تعالى حييٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا، ويستحيي أن يعذّب ذا شيبة شابت في الإسلام.

أما الحياء الذي بين العبد وبين الناس فهو الذي يكفّ العبد عن فعل ما لا يليق به، فيكره أن يطّلع الناس إلى منكر فعَله، فينهاه الحياء ويمنعه. فالذي يستحيي من الله يجتَنب ما نهاه الله عنه في حال حضوره مع الناس وغيبته عنهم، وهذا يسمى حياء العبودية والخشية من الله؛ لأنه سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

وهذا الحياء من أعلى خصال الإيمان، بل هو أعلى درجات الإحسان، كما في الحديث: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). وهذا الحديث يذكرنا بحديث آخر للنبي يبين فيه كيف الوصول إلى درجة الإحسان، فقال لأصحابه: ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا))، قال ثوبان راوى الحديث: صفهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، فقال النبي : ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

الله أكبر! تأملوا هذا الحديث الرهيب، إنهم من إخواننا ومحافظون على الطاعات، وليس فقط على الصلوات الخمس، بل يقومون الليل، ولكنهم إذا صاروا بعيدين عن أعين الناس وعن الرقيب انتهكوا المحارم. مثال ذلك الشاب الملتزم في الظاهر عندما يكون وحيدًا في منزله وقد هيّأ له أبوه قنوات فضائيّة فإنه يذهب لفتح القنوات الإباحيّة ليشاهدها، أو قد يتلصّص محاولاً النظر إلى نساء جيرانه، كل ذلك لعدم وجود رقيب ولضعف الوازع الديني، بينما المفروض أن يكون حياء الإنسان من الله يمنعه من فساد الظاهر ومن فساد الباطن، فساد الظاهر عند وجود رقيب، وفساد الباطن عند خلوته بنفسه بعيدًا عن أعين الناس، فيكون صالحًا في باطنه وظاهره، في سره وعلانيته، ولذلك صار الحياء من الإيمان.

ومن حرم الحياء لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، وأصبح كأنه لا إيمان له، كما قال : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) رواه البخاري. ومعناه: إن من لم يستح اصنع ما شاء من القبائح والرذائل، فإن المانع له من ذلك هو الحياء، وهو غير موجود، ومن ليس عنده حياء انغمس في كل فحشاء ومنكر.

فعن سلمان الفارسي قال: (إن الله إذا أراد بعبده هلاكًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا، فإذا كان مقيتًا ممقتًا نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنًا مخونًا، فإذا كان خائنًا مخونًا نزع منه الرحمة فلم تلقهُ إلا فظًا غليظًا، فإذا كان فظًا غليظًا نزع ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانًا لعينًا ملعَّنًا) والعياذ بالله.

ولقد تبين في الحديث السابق والأثر أنّ من فقد الحياء لم يتورّع عن فعل المحرمات والمنكرات، ولا يكف لسانه عن تتبع عورات الناس وعن قبح الكلام، قال عمر بن الخطاب : (من قَلَّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه)، وقال ابن مسعود : (من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله)؛ لذلك نجد ونسمع عن كثير من المنكرات متفشية بين الناس، ولم يعد أحد ينكر على أحد إلا من رحم الله، فجاهروا بالمعاصي، واستحسنوا القبائح والرذائل، بل أصبحت هذه القبائح فضائل، وافتخروا فيها وتنافسوا عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد الله الذي أنعم علينا بدين الإسلام الذي به هدايتنا لدار السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قال: ربنا الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد: فقد تحدثنا في الخطبة الأولى عن الحياء من الجوانب الشرعية، فدعونا نبحث عن الحياء في سلوك الناس وحياتهم الأسريّة لنرى كم هو معدوم هذا الحياء في بعض الناس.

فأين الحياء فيمن ترك السائق يدخل إلى داخل منزله ويتكشّف على محارمه وقد يأخذهن إلى المدارس وحدهن أو إلى الأسواق وهن متبرّجات ومتعطرات وبعضهن تذهب مع السائق إلى النزهات والخلوات لعدة أيام، والزوج موجود ولكنه مشغول في تعمير البيت ماليًا وتدميره أخلاقيًا؟! وأين الحياء ممن يستقدم نساء للقيام بمقابلة الضيوف من الرجال وخدمتهم ليظهر أمام الآخرين أنه عصريّ ومودرن؟! وأين الحياء ممن يتسكّع في الشوارع ويؤذي خلق الله علنًا دون حياء أو خوف من أحد؟! فأين الغيرة؟! وأين الشهامة؟! وأين الرجولة لمن يرى مثل هذه الأمور تحدث أمامه أو في بيته وهو لا يلقي لها بالاً ولا يهتمّ وكأن الأمر لا يعنيه؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أيها الإخوة المؤمنون، إن الحياء المطلوب والمرغّب فيه هو الحياء الذي يكفّ صاحبه عن سوء الخلق وفعل المحرمات، أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في دينه ودنياه فإنه حياء مرفوض ومذموم ويعتبر ضعفا وخورا وعجزا، فلا ينبغي أن يستحيي المؤمن من أن يقول كلمة الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يستحيي أن يسأل عن أمور دينه، فإنه لا حياء في الدين؛ لأن الحياء الذي يمنع من فعل الخير أو قول الحق ليس بحياء، إنما هو تخذيل من الشيطان وخداع يجب الاحتراز منه.

فاتقوا الله يا عباد الله، واستحيوا من الله حق الحياء، واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديما فقال تعالى ولم يزل قائمًا عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

لبيك اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وانصر من نصر الدين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً