أيها الإخوة، وصلنا معكم في الخطبة السابقة إلى إعلان بريطانيا بالانسحاب من فلسطين وإعلان قيام الكيان اليهودي وإيجاد دولة له على جزء من أرض فلسطين الذي حددته هيئة الأمم المتحدة. حينما أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من فلسطين بعدما أبادت وشرّدت معظم الشعب الفلسطيني ومكنت اليهود من زمام الأمور والتغلغل في جميع القطاعات المهمة، حتى إنهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية كانوا يجمعون السلاح من مخلفات معارك صحراء مصر الغربية لتسليح أنفسهم في فلسطين.
وبعد هذا الإعلان الماكر اندلعت المظاهرات في البلاد العربية وخاصة مصر، وتداعت الشعوب لنصرة فلسطين وتحريرها من اليهود، وقررت الحكومات العربية تحريك جيوشها إلى فلسطين للاشتراك في تحريرها، وكان عدد هذه الجيوش العربية مجتمعةً حوالي عشرين ألف جندي، معهم سلاح قليل، وأغلبه فاسد، ولقد أخرجهم الحماس بدون دراية بالحرب مع جهل بطبيعة الأرض التي يقاتلون عليها والعدو الذي سيقاتلونه، بينما العدوّ اليهودي مدرب تدريبًا جيدًا ومسلح تسليحًا كاملاً مع تفوّق في الناحية المعنوية والقتالية والخبرة العسكرية واحتياطي السلاح والذخيرة؛ ولهذا حينما لعبت بريطانيا لعبتها المخطط لها وأعلنت على الملأ أنها ستنسحب من فلسطين ولا تمانع من دخول الجيوش العربية إليها لتحريرها إنما كانت تعلم علم اليقين أن عدد لجيوش العربية وعدتها وتسليحها وذخيرتها لن يمكنها من طرد اليهود عن أرض فلسطين ولا تحريرها، بل كانوا على يقين أن بعض هذه الجيوش سيوجّه لخدمه مخطّط اليهود للاستيلاء على مزيد من الأرض، كيف عرفت كل هذا؟ عرفت هذا لأنها هي الدولة المستعمرة، وكانت قد أصدرت تعليمات بعد انهيار الخلافة العثمانية بتقليص الجيوش العربية كما ذكرنا في الخطبة السابقة وتفريقهم في المحافظات البعيدة وتزويدهم بأسلحة فاسدة... إلخ.
حينما أعلن اليهود قيام دولتهم تحركت هذه الجيوش العربية باتجاه فلسطين من عده جهات، فكانت الهزيمة نتيجة حتمية بسبب واقع الأمة العربية وتشرذمها وكثرة الخيانات، حتى إن القائد العام لدولة عربية كان نصرانياٍ إنجليزيا هو الجنرال حلوب باشا، فهل يرجى من مثل هذا الكافر خيرا وربنا سبحانه وتعالى يقول عن أمثاله: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: 2]؟! أي: أنهم لو يجدونكم وتسنح لهم الفرصة لتحولوا إلى عدائكم وقتالكم بأيديهم وألسنتهم وبكل ما يملكون.
ولقد مكن هذا القائد النصراني لليهود من الاستيلاء على ميناء ومدينة يافا وحيفا ومنع الجيوش العربية من الوصول لمساعدتهم، ولقد قاتل أهل يافا اليهود مدة ستة شهور متواصلة، وكان عدد السكان فيها يقارب ستين ألفا، وليس لديهم سوى مائتين وأربعة وثمانين قطعة سلاح على أن هذا النقص في التسليح لم يثن عرب يافا من التفكير في سدّ هذا النقص بما يتوافر لديهم من الإمكانيات، فكانوا مثلا يصنعون المتفجرات من مواد كانت تستعمل لإطفاء الحريق، وكانت أنابيب البوتاجاز تنتشر في شكل مدافع، ولقد اضطر الشعب أن يطلب النجدة من اللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية، ولا مجيب، وأبرقوا إلى ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية ولا مجيب، وتوالت عليهم المحن واستسلم من بقي منهم بعد ما يقارب ستة أشهر من القتال العنيف. ودخل الأعداء يافا، وأعملوا فيها يد السلب والنهب والقتل والفتك، وكان عدد الشهداء يافا يناسب جهادهم 7700 ما بين قتيل وجريح من فلسطين والمجاهدين المسلمين من تركيا ويوغسلافيا، ولن ينسى التاريخ لإنجلترا رفضهم لطلب الفلسطينيين بنقل الجرحى إلى المستشفيات وكان عددهم كبيرا، كما أنهم منعوا وصول الإمدادات إلى الفلسطينيين في ميدان المعركة، بل إنهم وقفوا في وجه المجاهدين العرب الذين توافدوا للدفاع عن إخوانهم، فصادروا أسلحتهم وتركوهم غنيمة وطمعًا لجحافل اليهود، وتكرر هذا المشهد لمدن وقرى أخرى مثل حيفا ودير ياسين وغيرهما كثير.
ولعل هذا الوضع يدل على أن الخيانة قد لعبت دورا عظيما في ضياع فلسطين، ولقد اعتاد العدو اليهودي والنصراني في تحقيق انتصاراته العسكرية على اختراقه لقوات العالم العربي من خلال عملائه وجواسيسه والتعرف على أسرارهم وخططهم العسكرية، وكذلك اعتماده على غفلتهم وعدم انتباههم إلى ما يدور حولهم، ولو رجعنا إلى الوراء قليلا واستقرأنا التاريخ قبل نصف قرن من الآن ولو أعدنا النظر والتأمل في وضع الأمة ليلة زحف الجيوش على فلسطين لتحريرها من اليهود ماذا نجد؟ نجد المساجد خاوية إلا من قليل من كبار السن، ونجد المدن العربية والعواصم ترقص مع الفنانة فلانة وعلى المسرح الفلاني حتى الصباح، وإذا رجعنا إلى وسائل الإعلام مثلاً في الصحف نجد أن الأمة في واد وما يجري على أرض فلسطين في وادٍ آخر، أما الإذاعات فنجد أغاني ماجنة وبرامج متنوعة لا علاقة لها بالحرب وغفلة عامة في جميع الاتجاهات، ولا هناك ما يدعو الأمة للإعداد والاستعداد ومعرفة خطورة الموقف وتقدير ما يمكن فعله وأخذ التدابير اللازمة لمثل ذلك، وكأن الأمر لا يعني أحدًا!!
ولو تأملنا أيضًا واقعنا الحاضر اليوم لعلمنا بأن التاريخ يعيد نفسه، ولا نزال في غفلتنا إلا من رحم الله؛ الحشود والقوات المتنوعة والأساطيل تجوب بحارنا وأراضينا وتقول بأنها لضرب الطاغية صدام، بينما الحقيقة لضرب الإسلام وأهله وإتمام السيطرة والهيمنة على ما تبقى من فلسطين وهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، ونحن مشغولون في مشاكلنا اليومية، وكأن الأمر لا يعنينا، ولا حول ولا قوه إلا بالله العظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|