أما بعد: فإن الأشر والبطر مظهر لجحود النعمة وبادرة لسوء المصير، ولقد كان فيما قصّ الله في كتابه عن قارون وقد آتاه الله من كنوز المال ما قابله بالأشر والبطر كان له سوء العاقبة والمصير، قال تعالى: إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ أي: أعطيناه من كنوز المال العظيمة التي مفاتيحها تُثْقِلُ في حَمْلِهَا الجماعةَ والعُصْبَةَ من الناس وذلك لكثرتها، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ أي: إن الله لا يحبّ الأَشِرِينَ الذين أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ، وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ أي: اطلب بما أعطاك الله من الأموال الجنة وبذل الأموال في رضا الله، وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا أي: خُذْ من مُتَعِ الدنيا ما أباحه الله لك بِقَدَرٍ، وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ أي: أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك، وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأرْضِ أي: لا تَكُنْ هِمَّتُكَ بما أنت فيه أنْ تُفْسِدَ في الأرض بالمعاصي، إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [القصص: 76، 77]، وكل ذلك توجيه من صالحي قومه لِيَرْعَوِيَ وينتهيَ عن غَيِّهِ، ويسلك سبيل السداد والرشاد، وهو أيضًا توجيه للناس جميعًا إلى الأبد، ولا يعني قارون وحده، فكم في أعقاب الزمن من أمثال قارون من تُبْطِرُهُ النعمةُ ويستعملها في المعصية والإفساد في الأرض والتعالي على الخلق، فيكون خطرًا على نفسه وعُرْضَةً لأن يناله من غضب الله ما يُعَكِّر عَيْشَهُ، بل قد تُطْوَى صفحتُه إن لم يكن بالخسف الذي حلّ بقارون فَبِقَارِعَةٍ تأتي عليه وإذا به صِفْر اليدين، وهذه نتيجة لظلمه وأَشَرِهِ وبَطَرِهِ، وكم من هذه الأَنْمَاِط والألوان موجودة الآن.
وكانت خاتمة قصة قارون ما ذكره الله في قوله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 81-83].
وقصة أخرى وردت في القرآن الكريم تتحدث عن بطر سبأ وكفرهم بالنعمة، وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق، وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نَبَؤُهَا في سورة النمل مع سليمان عليه السلام حيث كانت في ملك عظيم وخير عميم، وقد قص الهدهد خبرها على سليمان كما ورد في القرآن الكريم: إِنّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ [النحل: 23، 24]. وقد أعقب ذلك إسلامُ الملكة مع سليمان لله رب العالمين.
فقصة سبأ في الآيات التالية تقع أحداثُها بعد إسلام الملكة لله رب العالمين، وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم، وما طُلِبَ إليهم من شكر المنعم عز وجل بقدر ما يُطِيقُون، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15]. وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوب اليمن، وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منهم بقية إلى اليوم، وقد ارتقوا في سُلَّمِ الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة، فأقاموا خَزَّانًا يتألف جانباه من جبلين، وجعلوا على فَمِ الوادي بين الجبلين سدًا به عيون تُفتح وتُغلق، وخزّنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد، وتحكَّمُوا فيها وَفْقَ حاجتهم، فكان لهم من هذا سُورٌ مائيٌّ عظيمٌ عُرِفَ باسم: سد مأرب، عملوا ذلك مع صعوبة الإمكانات وقلة الموارد والآلات قياسًا مع هذا الزمن الذي تَوَفَّرَ فيه ما لم يكن في العصور الأولى، وما يُعمل الآن من سدود ما هو إلا نِتَاجُ تفكير الأقدمين وحدّ علمهم الذي علمهم الله إياه، فأهل هذا العصر مسبوقون في السدود وتخزين المياه خلفها وطريقة تصريفها واستخدامها من آلاف السنين، فلم يأتوا بجديد مع أن الآلات الحديثة والإمكانات الهائلة المتوفرة الآن كان من المفترض استغلالها لتخزين المياه بدلاً من هَدْرِهَا خاصة مياه الأمطار التي تذهب في الصحراء والبحر ولا يستفاد منها كما ينبغي، فما أعجز بني البشر الموجودين الآن! وما أقوى وأصبر الأقدمين! مع الفارق في الإمكانات والموارد واختلافها بين القديم والحديث، وتلك الْجِنَانُ عن اليمين وعن الشمال دلالةٌ على الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل، وفي تلك النعم آية تذكّر بالمنعم الوهاب سبحانه، وقد أُمِرُوا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين له نعمه سبحانه وبحمده: كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15]. وذُكِّرُوا بالنعمة ـ نعمة البلد ـ وفوقها نعمة الغفران والتجاوز عن السيئات بالرغم من التقصير الواضح في شكر المنعم جل جلاله، وإنها لَمِنَّةٌ عُظْمَى لو استجابوا لذلك تتمثل في حياتهم الدنيا بالنعمة والرخاء، وفي الآخرة بالعفو والغفران، ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا الله، فماذا كانت نهاية كفران النعمة؟ قال تعالى: فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ: 16]. لما أعرضوا عن شكر الله وعن العمل الصالح والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم سلبهم ذلك الرخاء الجميل الذي عاشوا فيه وأرسل السيلَ الجارفَ الْعَرِمَ الذي يحمل الحجارة لشدة تَدَفُّقِهِ، فحطَّم السد وانْسَاحَت المياه وانْسَابَت فَطَغَتْ وأغرقت، ثم لم يَعُدِ الماءُ يُخَزَّن بعد ذلك، فجفّت واحترقت وتبدلت تلك الجنان الْفِيحُ صحراءَ تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة. قال تعالى بعد أن ذكر إعراضهم وإرسال السيل العرم في آخر الآية نفسها: وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، والخمط: هو شجر الأراك أو هو كل شجر ذي شوك، والأثل: شجر يشبه الطرفاء، والسدر: شجر النبق المعروف، وهو أجود ما صار لهم ولم يَعُدْ لهم منه إلا القليل.
قال تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ [سبأ: 17]، لقد كفروا بنعم الله ولم يشكروها، ولكنهم إلى ذلك الوقت لا زالوا في قراهم وبيوتهم حيث ضيق الله عليهم الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة، ولكنه لم يمزقهم ولم يغرقهم، وكان العمران ما يزال متصلاً بينهم وبين القرى المباركة: مكة في الجزيرة العربية وبيت المقدس في الشام، وكانت اليمن عامرة في شمال بلاد سبأ ومتصلة بالقرى المباركة، والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك ومأمون، قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـٰهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا ءامِنِينَ [سبأ: 18]. وغلبت عليهم الشِّقْوَةُ فلم ينفعهم النذير الأول فدعوا الله على أنفسهم فاسْتُجِيبَت الدعوة دعوة الأشر والبطر، قال تعالى مخبرًا عنهم: فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19].
أيها المسلمون، إن القرآن مليء بالعبر والعظات لمن يريد الاعتبار والرجوع إلى الله، والآيات كثيرة في هذا المعنى، فعلينا أن نرجع إلى الله ونفيق من غفلتنا ونتذكر نعم الله علينا ونشكره سبحانه وتعالى على نعمه، فبالشكر تدوم النعم، ويجب عند قراءتنا لهذه الآيات وغيرها أن نعتبرَ ونقرَّ ونعترفَ بنعم المنعم سبحانه علينا وعلى الخلق أجمعين، لا نعترف بها لأحد غير الله، سواء بقول الإنسان: إنها بقدرته ومعرفته وعمله وتصرفه الحكيم أو بإرجاعها لأحد من الخلق، فالبشر كلهم جميعًا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وإنما هم أسباب ومظهر من مظاهر المنع أو العطاء، ضعفاء فقراء إلى الله، ونسمع ونقرأ عن بعض الأشخاص الذين تصدر منهم العباراتُ الشِّرْكِيَّةُ أو الجحُودِيَّةُ لنعم الله عز وجل ويرجعون عبارات الثناء والمدح والشكر إلى المخلوقين وينسبون ويسندون ذلك إلى البشر ويَتَفَوَّهُونَ بالعبارات والألفاظ التي يندى لها الجبين وتصدر من متعلمين مثقفين على حد زعمهم هُمْ، حتى في بلد التوحيد حيث يرجعون ذلك إلى فضل فُلان وحكمة علاَّن ولولاه لما حصل ما نحن فيه، ولا يرجعونها إلى الواحد الديان رب السماوات والأرض، ولا يُنَزِّهُونَ ألسنتَهم عما يقدح في عقيدتهم، فهم يعظمون المخلوقين وينسبون الأسباب والنعم إليهم مع أنهم عباد فقراء إلى الله مهما أُوتُوا ومهما رزقهم الله.
فعلى المسلمين أن ينسبوا النعم إلى الله عز وجل لأنه هو المنعم المتفضل بها سبحانه على عباده، وعليهم أن يقدروا الله حق قدره ويعلموا أن البشر إنما هم أسباب ومظهر من مظاهر المنع أو العطاء فقراء إلى الله كما قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ [فاطر: 15]، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67]. وعليهم أن ينسبوا النعم إليه سبحانه كما قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [النحل: 53-56]، وقال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]. وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، وقال سبحانه وبحمده: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات: 22، 23]، وقال تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى: 12]، وقال عز وجل: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]، والآيات في هذا كثيرة.
فيجب علينا أن نشكر الله على نعمه بالاعتقاد بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح، وليس ذكرًا وشكرًا باللسان فقط، ولكن لا بد من التطبيق العملي لهذا الشكر الذي يجْرِي على اللسان، ولا يكون ذلك إلا إذا كان نابعًا من القلب، فعند ذلك نُجَازى من الله بالزيادة في النعم، وإن لم نفعل فعقاب الله شديد، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
|