أما بعد: فيا عباد الله، مع مرور السنون والأعوام وتعاقب الليالي والأيام تكثر على المسلمين الفتن وتعظم المحن، فيرفق بعضها بعضًا، ولا تقوم الساعة حتى يتعاقب على المسلمين فتن ممحصة وابتلاءات ماحقة، يمحق الله بها الكافرين ويثبت بها المؤمنين.
وهذه الفتن والمحن ـ عباد الله ـ وإن كان ظاهرها الشر والأذى إلا أنها تحمل في طياتها من المنح والعطايا ما تعجز عنه الأفهام حينا، وتقف مشدوهة أمامه حينًا آخر.
قد ينعم الله بالبلـوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض الْخلق بالنعم
وأصدق من ذلك قول الله سبحانه: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]، وقال : ((عجبًا لأمر المؤمن أن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن)) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله.
عباد الله، إن ما وقع من الاستهزاء بنبينا محمد من دولة الدنمارك الحاقدة أثار حمية المسلمين لله تعالى ولرسوله، وأيقظهم من سباتهم، وبصرهم بأعدائهم، فهي طعنة آلمتنا لكنها أيقظتنا، وقد قال الله تعالى في حادثة الإفك التي هي صورة من صور أذيته : لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور: 11].
فهـذي أمـة الإسـلام ضجـت وقـد تجبى المنى بالنـائبـات
وقد تشفى الجسـوم على الرزايـا ويعلو الدين من كيد الوشـاة
وقد تصحو القلـوب إذا استفزت ولفح الثأر يوقظ من سبـات
عباد الله، بعض المنح في طيات محنة استهزاء دولة الدنمارك بنبينا محمد :
من أولى هذه المنح في طيات هذه المحنة هي تغير نظرة الغرب للمسلمين، لقد كان الغربيون ينظرون إلى الأمة الإسلامية وكأنها الرجل المريض الذي أصيب بالشلل، فمهما ضربته فلن يتأوه ولن يكون له رد فعل، لكن الموازين انقلبت وأثبتت هذه الحادثة الدنيئة أن أمتنا أمة عظيمة وأنها إذا مرضت فإنها لا تموت، وفيها رجال يذودون بكل ما أوتوا من قوة دون نبيهم الكريم ، وأن أمتنا فيها خير كثير ولكنها تعيش فترة من التخدير والخمول، لكنها إذا استيقظت تحركت كالبركان، وهذا ما رأيناه من التسابق في المساهمة والبذل وما نسمعه من استنفار الأمة كلها والتحرك في جميع المجالات.
لقد وحدت هذه الأزمة ـ عباد الله ـ صفوف المسلمين، فرأينا ولله الحمد تكاتف المسلمين وتبنيهم لنفس المواقف وإن اختلفت البلدان وتعددت اللغات وتنوعت الجنسيات. ولقد أثارت وقفة المسلمين جميعًا نصرة لنبيهم ودفاعًا عن حبيبهم، أثارت تلك الوقفة شجون الباحثين الغربيين لدراسة ظاهرة حب المسلمين لرسولهم .
الوقفة الثانية عباد الله: لقد كنا ولا زلنا إذا رأينا ما يتمتع به الغرب الكافر من عابرات للقارات وأنواع الدبابات وصنوف الصواريخ والمدمرات تملك بعضنا اليأس، وأصابه القنوط، يتساءل ونحن معه عن ذلكم السلاح الذي يمكن للعرب والمسلمين أن يؤذوا به عدوهم من غير أن يعلنوا الحرب والمعاداة، وجاءت هذه المحنة، وأبى الله إلا أن يظهر للمسلمين ما يغيظون به عدوهم ألا وهو المقاطعة.
إن المقاطعة هي السلاح الذي جعل الغرب يستنفر عن بكرة أبيه، فراحوا يعقدون المؤتمرات ويجرون المحادثات رغبة في إيقاف هذه المقاطعة، لقد خسروا بسببها ما بنوه في سنوات طويلة. لقد أراد الغرب دومًا أن لا ينتج المسلمون سلعهم الأساسية، وأن يكونوا على الدوام منجذبين إلى البلدان المنتجة التي تتحكم بهم وبقوتهم، وهم قد نجحوا إلى حد كبير في ذلك، غير أنهم لم يفطنوا إلى هذا الانجذاب وهذه الأسواق المفتوحة قد يصبح إغلاقها لعارض كهذا كارثة تحل بالدول المنتجة.
ألا فاحمدوا الله ـ عباد الله ـ على أن رزقكم ما تنهكون به عدوكم، وتزعزعون اقتصاده إن أنتم صبركم على هذا الطريق وتمسكتم به جميعًا، وقد جعل الله سبحانه فيما ينتجه أبناء بلاد المسلمين فرجًا ومخرجًا، ففي مقاطعتنا دعم لإخواننا التجار، وفيها أيضًا إنهاك لعدونا وإشعار له بأن لنا حرية الاختيار إذا كان لهم حرية التعبير.
فلنتجمع يـا حماة الديـن قـاطبة لنصرة الدين فِي جد من العمـل
وأيسر الأمر أن تلقـى بضـائعهم ردت إليهم جزاء الْمارق الثمـل
الوقفة الثالثة عباد الله: لقد ساهمت هذه المحنة في إقبال الغرب عمومًا والدنماركيين خصوصًا على تعلم الإسلام واكتشاف ثقافة المسلمين ومحاولة التعرف على هذا الرجل الذي ملأ الدنيا بأكملها وشغل الناس. لقد ذكرت التقارير الصحفية في الدنمارك أن كل نسخ القرآن الكريم التي كانت متوفرة في المكتبات الدنماركية قد نفدت الآن بسبب الإقبال الكبير من الدنماركيين على اقتنائه وقراءته، بينما أكد تقرير آخر أن الإسلام بعلومه المتنوعة ونبيه الكريم في طريقه لأخذ مكانة خاصة به حسب ما أفاد به أحد المتخصصين في القانون. وفي السياق ذاته أعلن قسم علوم اللاهوت في جامعة كوبنهاجن عن نيته توسيع دائرة اهتماماته ليضم قسم الدراسات الإسلامية ليزود الأشخاص الراغبين في الإسلام بما يكفيهم من معلومات. ولقد صرح أحد الدعاة وأئمة المساجد هناك أن هذه المحنة قدمت الدعوة هناك سنوات للأمام، ولو ظل 100 داعية يتحدثون عن الإسلام في الدنمارك 10 أعوام ما تركوا مثل ما تركته هذه المحنة من الأثر.
أما في خارج الدنمارك فقد أعلن مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) ـ وهو أكبر المنظمات المعنية بالدفاع عن صورة الإسلام والمسلمين لدى وسائل الإعلام الأمريكية ـ عن تلقيه أكثر من 1600 طلب من أمريكيين وكنديين يطلبون الحصول على مواد تعريفية عن الرسول ، وذلك خلال 48 ساعة فقط من إطلاق المجلس حملة تعريفية بالرسول .
عباد الله، إن من المنح التي ضمنها المولى سبحانه هذه المحنة والفتنة أن اطلعنا جميعًا على حقيقة بلد الدنمارك وعنصريته وعدوانه للإسلام والمسلمين، حتى على الذين يعيشون على أرضه بل ويحملون جنسيته. لقد أظهرت دراسة أجراها المركز الأوربي لمراقبة العنصرية والعداء للأجانب التابع للاتحاد الأوربي أن الدنمارك تقع في المرتبة الثانية في أوربا الموحدة بعد بلجيكا في عدم التسامح إزاء المهاجرين والأقليات، ولا غرابة في ذلك يا عباد الله، فها هي بعض ممارستهم تجاه إخوانكم المسلمين هناك:
أولاً: لم تعترف دولة الدنمارك حتى الآن بالدين الإسلامي، رغم أنه الديانة الثانية من حيث عدد السكان، حيث بلغ تعداد المسلمين ربع مليون مسلم، في حين تعترف تلك الدولة البغيضة بديانة السيخ التي يبلغ عدد المنتسبين لها 170 فردا فقط. والاعتراف بالديانة رسميًا يحقق لهم أحقية إقامة دور العبادة وبناء المساجد التي يمنعون من بنائها في بعض الأقاليم.
إن دولة الدنمارك تفتقر إلى المساجد، ويرجع ذلك الموقف المتحفظ للسلطات الدنماركية إزاء السماح بإنشاء دور العبادة للمسلمين، فمعظم الأماكن المخصصة للصلاة مستأجرة وليست مملوكة للمسلمين، وهي لا تعدو أن تكون مجرد مستودعات قديمة وشقق سكنية يجري إعدادها للصلاة ويتم تسجيلها بوصفها مقارًا لجمعيات ثقافية إسلامية لا أكثر.
عباد الله، يتم مضايقات إخوانكم المسلمين على مستويات عديدة ومنها:
مستوى الأحوال الشخصية: يتم تحديد سن الزواج بـ24 سنة بهدف وضع المسلمين في حرج، والتضييق عليهم ليدفعوهم لممارسة الرذيلة، كما أن القانون هناك لا يسمح بتعدد الزوجات.
أخواتنا هناك يضيَّق عليهن في مسألة ارتداء الحجاب، ولا يمكن أن يتسلم المسلم عملاً قياديًا في ذلك البلد.
أما مناهجهم ـ عباد الله ـ فقد صرحت الدراسة التي أعدها المركز الأوربي في عام 2001م أنها تقدم صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين مما يعزز الانطباعات السلبية المستقرة في الوعي الجمعي للمواطنين الدنماركيين.
عباد الله، حين بدأت المحنة تنادى بعض الكتاب والإعلاميين والصحفيين بالرفق بهم فهم مسالمون ولم يظهر لنا منهم العداوة في السابق، لكن إخواننا هناك أثبتوا لنا أن عداوتهم للإسلام ليست جديدة، بل متأصلة لدى ساستهم وحكومتهم، فها هو أحد الساسة السياسيين لديهم يدعو في عام 2000م إلى طرد المسلمين من الدنمارك وتجميعهم في معسكرات، ويدعو كذلك إلى بيع 600 ألف فتاة من فتياتهن في سوق النخاسة مقابل مبالغ مالية تذهب إلى خزينة الدولة، وفي تصريح آخر لنفس الرجل ينعت المسلمين بأنهم مجرمو العالم. وهذا سياسي آخر يرأس الاتحاد الدنماركي يصف الدين الإسلامي بأنه إيديولوجية شمولية بشكل مزعج للغاية. وهذا ثالث يقول: "هناك جوانب معيّنة من الدين الإسلامي لا يمكنني أن أقبلها، إنه من غير المناسب أن يتم قطع العمل أربع مرات يوميًا من أجل الصلاة". هذه بعض عداواتهم وما خفي كان أعظم، فأين أدعياء التسامح عن ذلك؟!
عباد الله، في حال الرخاء والأمن والاستقرار يظهر أدعياء الوطنية وحماة الدين والفضيلة، ولكن حين تحمل ساعة الشدة وتتوالى الفتن يتضح من بكى ممن تباكى. وهكذا في هذه المحنة تبين للناس أجمع من هم إخوان محمد وأتباعه حقًا، ومن هم أعداؤه وأتباع أعدائه صدقًا.
لقد ميزت هذه الفتنة الصفوف وأبرزت أعداءنا الذين من بني جلدتنا يتسمّون بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا، اعتدنا أن لا نفقدهم في كل حادثة تلمّ بالأمة الإسلامية، يثبطون العزائم ويضعضعون القوى، يتحدثون بخنوع وخضوع للغرب، يتلمسون له العذر وينافحون عنه بما لا ينافح هو عن نفسه، ذليلة أعناقهم للغرب، مرفوعة أنوفهم في وجه بني جلدتهم، سهامهم إلى قلوبنا مسوّمة، ورماحهم إلى صدورنا مصوّبة، وينعقون بما لا يسمعون إلا صدى لما يتردد في أروقة الدنمارك وأوروبا، في هذه الأزمة انزعجوا لما لمسوا من أحباء محمد انتصارًا وغيرة لم يألفوها، حصرت صدورهم أن يروا المجتمع بأكمله يهبّ لنصرة النبي والدفاع عنه ومقاطعة منتجات تلك الدولة البادئة.
لقد فشلت بعض مخططاتهم في إثناء المسلمين عن موقفهم، وصغرت صورهم أمام أسيادهم من الغرب حين تنكر الناس لهم ولجؤوا إلى أهل الإصلاح والمحبة الحقة.
أكـرارًا علـى قوم كمـاة وفي وجه الأعـادي كالبنـات
وإن مس العدو مسيس قرح رفعتم بيننـا صـوت النعـاة
و من يرجو بنِي علمان عونًا كراج الروح في الجسد الرفات
عباد الله، إن الإصلاح لا يأتي إلا من الأوفياء النصحاء، أما أتباع الدولار والدرهم ومن يأتون على أظهر الدبابات وتستقبلهم المأدبات في السفارات فهم الخونة لبلادهم والأعداء لشعبهم، وإن صورهم الإعلام بعكس ذلك.
ولعلك ـ أخي الكريم ـ أن ترفع رأسك قليلاً لتقلب ناظريك فيمن حولك من البلدان المضطهدة لتدرك من هم السبب في بلائها واحتلال أرضها، إنهم عملاء الغرب وحلفاؤهم في تلك البلاد الإسلامية.
عمـي بصائرهم طمس مشـاعرهم كـأنهم فِي مراعـي وهمهم غنم
فالشـر منطقهم و الغدر شيـمتهم والخبـث دينهم إن العدو هـم
هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني بما فيهما من الآيات والحكمة...
|