الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمن معوقات الزواج الإسراف والتبذير في وليمة الْعُرْسِ، وهذه سيئة تضاف إلى سيئة المغالاة في المهور والنفقات الأخرى التي تثقل كاهل الزوج وتنفّر الشباب عن الزواج وطلب الحلال؛ لأن كل شيء إذا جاوز حده ينقلب إلى ضده لا محالة.
وعلينا أن نتساءل: من المستفيدون من هذه الأموال التي تذهب هدرًا وتضاع سدى وتسدّ طريق المسلمين إلى الزواج الذي هو من ضرورياتهم ومن صلاح دينهم ودنياهم وحصول الأمن والاستقرار؟ ومن الذين يخسرون هذه الأموال وتقع عليهم المشاكلُ والتَّبِعَاتُ؟ إن الذين تقع عليهم التبعات وتثقل الديونُ كَوَاهِلَهم الأزواجُ الذين يحيون ويعيشون عيشة الْبُؤْسِ والفقر والتَّعَاسَة نتيجة الإسراف والتبذير، وأما المستفيدون فإنهم أصحاب الدكاكين والمعارض والسلع الأخرى والفنادق وما أشبه ذلك، وقد تذهب كثير من هذه الأموال إلى الخارج للأماكن المستورد منها تلك البضائع والصناعات، وأما بقية الأقارب ومن حضر الولائمَ فهم الْمُتَفَرِّجُونَ عن قُرْبٍ وعن بُعْدٍ ولا يهمّهم ما وقع على صاحبهم المتورط في تلك الديون وتلك الزوجة المسكينة التي وقعت عليها المصيبة هي وزوجها.
عباد الله: لقد أُحِيطَتْ نعمةُ الزواج بالإسراف البالغ نهايته في الولائم من أهل الزوجة والزوج مشتركين أو منفردين، حيث يدعون جمعًا كبيرًا من الناس يحضر منهم من يحضر ويتخلف من يتخلف، ويحصل فيها من السمعة والرياء والمفاخرة ما الله بها عليم، ولو وقف على أحدهم فقير لما تصدّق عليه بمائة ريال، ولكنه ينفق عشرات الألوف مفاخرة وسمعة ورياء، وبِئْسَ الطعام طعام الوليمة؛ يُدْعَى إليها الأغنياءُ ويُتْرَكُ الفقراءُ أو قد يُرَدُّونَ ويُبْعَدُونَ عنها، ولا يعلمون أنهم يُعَرِّضُونَ أنفسَهم لكراهة الله لهم، وأنهم أصبحوا إخوان الشياطين، وأنهم بذلك عَدَلُوا عن طريق عباد الرحمن الذي هو الطريق الوسط في الإنفاق، قال تعالى: وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء: 29]، وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67].
إن هذا الإسراف كما أنه محظور شرعًا فهو ممقوت عادةً، فإن الناس يلومون من يسرف ويتصرف ذلك التصرف، وينظرون إليه النظرة إلى الساخر الناقص الذي يحاول تغطية وإكمال نقصه بمثل هذه الولائم التي تجاوزت الحد. إن الإسراف سفه في العقول لما فيه من إتلاف المال وإضاعة الوقت وشغل البال وإتعاب الأبدان وامتهان النعمة، حيث نرى ونسمع كثيرًا عن هذه النعم المتنوعة من الأطعمة والأشربة واللحوم التي تبقى ولا يأكلها أحد وتلقى في الزبالات والطرق، والمتورع من الناس من يحملها إلى الْبَرِّ ويرمي بها هناك في الفضاء، فهل هذا من الرشد أم هو من السَّفَه؟! وهل هذا من شكر النعمة؟! وهل تفكر أحد فيما كان عليه الآباء والأجداد؟! وهل تفكر من لم يَعِشْ ويحيا حياة الفقر هل تفكر وتدبر حال الأمم والشعوب التي يراها أو يسمع أو يقرأ عنها كل يوم في وسائل الإعلام المختلفة؟! وهل أَمِنَّا مَكْرَ الله؟! وهل لدينا ضمان بدوام هذه النعم مع كفرانها؟! لا والله، لئن لم نشكر النعمة لَيَحِلّ بنا ما حَلَّ بغيرنا من الأمم السابقة والحاضرة، سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 62]، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، وقال عن سبأ وما كانوا فيه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ [سبأ: 15-17]، ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53].
ومما يُثْقِلُ كاهلَ الزوجِ ويُعِيقُ الزواجَ اشتراطُ أهلِ الزوجةِ تأثيثًا معينًا لبيت الزوجة أو غرفة النوم وأحيانًا نوع السيارة أو إقامة الحفلة في فندق أو قصر معين أو إحضار المطربين والمطربات وأنواع رقاع الدعوة المسماة بالكروت التي تصل إلى آلاف الريالات وإدخال بعض السفهاء لمن يلتقط صورًا للزوجين وقد يحصل حتى للنساء الحاضرات، وتسجيل أصواتهن في الأشرطة وتداولها وسماعها وانتشارها بين قليلي المروءات، وهذا تدهور وانحدار إلى الهاوية، وهذه الأخيرة أمور منكرة يجب على كل مسلم أن يسعى لإزالتها بما يستطيع، ومتى أدرك كل منا دوره وقام بالواجب عليه صلح المجتمع بإذن الله، ومتى تهاونّا فسوف تكون العواقب السيئة التي لا تحمد عقباها.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة أعظم من ذلك وهو الإرسال المباشر من الهواتف المحمولة إلى هواتف أخرى أو شبكة المعلومات أو الفضائيات، إرسال ما يدور في قاعات وصالات الأفراح النسائية من رقص وغناء بالصوت، وقد يكون النقل مع الصورة غالبًا خاصة لِلْمُرْسِلَةِ التي قَلَّ حياؤُها وقامت بهذا الفعل الْمَشِين.
أعود لأقول بأن الذي سبق ذكره قبل هذا التذكير الأخير إنما هو موجز للعقبات والتكاليف الباهظة التي أَسَرَ بها كثير من المسلمين أنفسهم ووضعوا بها الأغلال والقيود في أعناقهم وأيديهم وأرجلهم حتى صاروا لا يستطيعون الفكاك منها، بل تزداد أحوال كثير منهم سوءًا يومًا بعد يوم، فهل يفيق المسلمون من غفلتهم؟ وهل يرجعون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ويدركون الحكمة من وراء النكاح؟ وهل يتركون المفاخرة والمظاهر الكاذبة والإسراف في الولائم ويحافظون على النعم؟ وهل يكتفون ويرضون بالاقتصاد والاختصار في التكاليف القليلة التي ترجع على الزوجين بالخير والبركة؟ وهل يكتفون بالاقتصار على أقرباء الزوجين ويختصرون في طعام الوليمة؟ هل يقتصدون في أمورهم كلها؟ إنا لنرجو أن يسلكوا طريق عباد الرحمن في الاقتصاد وعدم الإسراف عمومًا، وفي الزواج خصوصًا، ابتداءً بالْخِطْبَةِ التي هي عقبة أيضًا لدى كثير من الناس ولها خُطْبة مستقلة نظرًا لأهمية ذلك الآن، وما يلحق بالخِطبة من مهر وغيره، ومرورًا بوليمة العرس وما يتبعها، وانتهاءً ببيت الزوجية الذي أنهك قوى كثير من الأزواج من حيث الإعداد والنفقات والذي هو مقر ومكان الخصام أو الوئام، إما أنْ يُؤَسَّسَ على البر والتقوى أو على العكس، وعندها يعرف كل منهما ما كسبت يداه وما قدم في أيام خلت هي البداية للطريق الطويل أو القصير، إما أن يُدْخَلَ السجن أو يعيش سنوات طوالاً أسير الهمّ بالليل والْمَذَلَّة بالنهار لأصحاب الدَّيْنِ حتى يُوفِيَهُمْ حقوقَهم أو يماطلهم.
ويُوجَدُ بَوَادِرُ طيبةٌ في بعض الأماكن نسأل الله أن يتمها بخير ويعم بنفعها مجتمعات المسلمين، تلك البدايات المتمثلة في الحد من الإسراف والتكاليف الباهظة في الزواج، ومنها الزواج الجماعي لعشرات العرسان في ليلة واحدة، ولكنها محصورة في بعض القرى والقبائل وفي المدن أيضًا، أما الغالبية العظمى فهي على العكس من ذلك، وأما من ناحية المبادرات الخيرية المنتشرة في بعض المدن والتي تُعْنَى بتيسير الزواج فهي بداية الحلول للمشاكل والعقبات التي أشغلت وأَهَمَّتْ معظم الناس، والحلول كثيرة وميسورة في الوقت نفسه لو وَحَّدْنَا الْجُهْدَ والوقتَ والمالَ، وأما إذا بقيت الجهود مبعثرة وتعددت الاتجاهات والمؤسسات فإن خيرها ونفعها محدود ومجالها مقصور على فئات معلومة تبعًا لتصورات القائمين عليها في كل مدينة ومنطقة، وفكرة إنشائها وعملها فكرة طيبة وخَيِّرَةٌ، ولكن تلك المساعدات زهيدة جدًا سواء ما كان منها على سبيل القرض أو الهبة التي هي أساسًا من الزكاة، تلك الزكاة التي لا بد أن تُدْفَعَ لمن هو غير مستطيع للزواج من ماله لا بد أن تؤدّى في الوقت المناسب غير متأخرة لعدة سنوات، وعلى العكس من ذلك وُجِدَ من دُفِعَتْ لهم لانتظارهم أكثر من عشر سنوات ضمن قائمة الانتظار بعد أن تزوج الزوجان وأنجبا أولادًا وصل الأكبر منهم المرحلة المتوسطة، فهذا غالبًا قد أغناه الله بالوظيفة والعمل والكسب خلال السنوات، فاستحقاقه السابق في ذلك الوقت ليس معناه أن يأخذه الآن زكاة مدفوعة في هذه السنة، وهذا أمر ليس بالْهَيِّنِ، ولا يجوز السكوت عليه لأنه من الزكاة، أما لو كان قرضًا أو هبة فهذا أمر مختلف تمامًا، فليتنبه المسلمون لذلك ويقفوا عند شرع الله وأوامره ونواهيه، وكما أشرت فإن الحلول المتمثلة في صناديق الإقراض العامة البعيدة عن الربا والشبهات المبنية على مصادر التكافل الاجتماعي لعامة الشباب في جميع أنحاء المملكة هي الحل الأمثل لواقع الناس اليوم، ولعلنا نستعرضها بعد الخطب عن الربا والدَّيْن إن شاء الله تعالى.
أما الواجب على شباب المسلمين فهو امتثال أمر الله وأمر رسوله عند عدم الاستطاعة على تكاليف الزواج بالاستعفاف حتى يغنيهم الله من فضله ويجدوا الحلول الطيبة المباركة لهم ولأمثالهم من المسلمين، ففي الآية الكريمة والحديث الشريف التالي ذكرهما الحل الإلهي والدواء الشافي بإذن الله عز وجل، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور: 33]، وقال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أَغَضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاءٌ))، وِجاء أي: وقاية وحصانة بإذن الله من الوقوع في الحرام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه الأطهار...
|