أما بعد: فلقد كان الكلام في الخطبتين السابقتين عن حجاب المرأة المسلمة، وأوردت الأدلة من كتاب الله الكريم ومن سنة نبيه محمد ؛ ليعلم كل مسلم وجوب احتجاب المرأة المسلمة عن الرجال الأجانب عنها وعدم جواز كشف وجهها للرجال من غير محارمها فضلاً عما فوق ذلك مثل الرأس والنحر والشعر والساقين والذراعين وما فوق ذلك أيضًا من العورات الْمُغَلَّظَةِ، وسببُ الحديث عن ذلك هو ما نراه ونشاهده ونسمعه ونعيشه واقعًا محزنًا ومؤلمًا من حال المسلمين اليوم في المجتمعات الإسلامية عمومًا حين قَلَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكَثُرَ دعاةُ الضلالة والرذيلة وأصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، والتبس على بعض المسلمين الذين يَتَلَقَّوْنَ الدين عادة حسبما يرونه في المجتمع، ولما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا من أهمية في حياة المجتمع المسلم لأنها أهم دعاماته وركائزه المهمة، والتي بوجودها يعيش المجتمع في خير وسعادة، وبفقدانها يعيش المسلمون حالة التعاسة والشقاء، ولأن هذه الحياة هي سفينة النجاة التي نعيش فيها جميعًا، إنْ تَرَكْنَا المخربين يخرقونها غرقنا جميعًا، وإن أخذنا على أيديهم نجونا جميعًا بإذن الله، لذلك كان الحديث وكانت هذه السلسلة المستمرة والمترابطة من أجل التوبة والرجوع إلى الله لئلا ينزل العقاب على الجميع ولا يختص بأصحاب المنكرات للأسباب المذكورة سابقًا، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، وقال عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
لتلك الاعتبارات السابقة وغيرها فالكلام اليوم عن النساء وفِتَنِهِنَّ؛ لأنهن البابُ الْمُوصَدُ الذي دخل معه أعداءُ الإسلام ولا زالوا يتسللون منه وعن طريقه إلى واقع المسلمين ومجتمعاتهم باسم الدفاع عن الحقوق الضائعة للمرأة والظلم الواقع عليها من الرجال، واستخدموا بني جلدتنا من دعاة الرذيلة وحَمَلَةِ الفكر الْعَفِنِ واتخذوهم سُلَّمًا للوصول إلى مآربهم، واستطاعوا أن يحرفوا كثيرًا من المسلمين عن دينهم أو يمسخوهم على أقل تقدير حتى ترى الرجل وقد كثرت الذنوب والمعاصي عليه وليس لديه أي إحساس أو شعور أو مبالاة بتعاليم الإسلام، وتكون المنكرات في نفسه وأهله وعرضه ولا يتحرك فيه سَاكِنٌ حيث تَبَلَّدَ إِحْسَاسُهُ وفَقَدَ غَيْرَتَهُ، وسبب ذلك كثرة الذنوب والمعاصي التي أصبحت مغلِّفَةً ومُغَطِّيَةً على قلبه وحجبت نور الإيمان عن الوصول إلى ذلك القلب الذي يحتاج إلى من يجلو عنه الصَّدَأَ، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى الله والإنابة إليه والتوبة من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها والعزم الصادق على عدم العودة إليها، قال الله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14].
وقد أخبرنا رسولنا محمد عن ظهور النساء الكاسيات العاريات اللائي يَمِلْنَ عن طريق الهدى والحق إلى طريق الضلال بصرف الرجال إليهن وفتنتهن لهم حتى يَتَنَكَّبُوا الصراطَ المستقيم ويبتعدوا عنه، وأخبر بِأَنَّهُنَّ مُنْتَسِبَاتٌ للإسلام وأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. وحذرنا أشد التحذير من فتنة النساء عمومًا وأن لاَّ نَقَعَ فيما وقعت فيه بنو إسرائيل حيث كانت أول فتنتهم في النساء، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)). ومهما كان الرجل حازمًا معهن فإنهن يَغْلِبْنَهُ ويُذْهِبْنَ عَقْلَهُ بكيدهن ومكرهن واحتيالهن وخروجهن من المآزق والمحاذير بما لا يستطيعه الرجال كما أخبر عز وجل عنهن بقوله: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله في أضحى أو فطر إلى المصلى فمرَّ على النساء فقال: ((يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار))، فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: ((تُكْثِرْنَ اللعن، وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أَذْهَبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إِحْدَاكُنَّ))، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادة المرأة مثل شهادة الرجل؟!)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟!)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها)) رواه البخاري ومسلم. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما تركت بعدي فتنة أَضَرَّ على الرجال من النساء)) رواه البخاري ومسلم.
نعم، إنهن أعظم وأضر فتنة دخلت على المسلمين، واستعملها الأعداء سلاحًا قويًا ليفتكوا بهذه الأمة المسلمة وليبعدوهم عن إسلامهم أو يبقوهم كالجسد بلا روح، وهذا ما وصلوا إليه في زماننا هذا عن طريق المرأة للمطالبة بحقوقها ورفع الظلم المزعوم والواقع عليها من قبل الرجل، ومن هنا بدأت الفتنة في العصر الحاضر في بلاد المسلمين، فمنذ أكثر من ثمانين عامًا خرجت أول امرأة مَارِقَةٍ عن تعاليم دين الإسلام ودَاسَتَ حِجَابَهَا بعد أن استطاع أعداء الإسلام من المنحرفين والمنحلين أخلاقيًا في إحدى الدول العربية إلى التوصل إلى أولئك الخبيثات بإقناعهن والتسلط عليهن ومسخهنّ وإبعادهن عن دين الإسلام، ثم الاختلاط والخلوة في المكاتب والمؤسّسات والوزارات والإدارات والمناسبات والأسواق وغيرها، حتى انتهى الحياء من وجوه الرجال والنساء على حدٍّ سواء وطُبِعَ على القلوب، وانتقلت تلك الظاهرة من بلد إلى بلد وأصبحن يقلدن بعضهن، ويقلدن في ملابسهن وحركاتهن وجميع أفعالهن المرأة الغربية، وسكت الرجال وذهب الحياء وقلَّتِ الغَيْرَةُ ومُسِخَ القومُ وأفتى المفتون بجواز كشف المرأة عن وجهها ومفاتنها حيث ضربوا بالآيات المحكمة من كتاب الله وبالأحاديث الصحيحة من سنة رسول الله عرض الحائط واتبعوا المتشابه، ولو بقي الأمر على كشف الوجه والكفين لكان ذلك أَيْسَرَ وَأَهْوَنَ، ولكنهن كشفن عن نحورهن ورؤوسهن وأذرعهن وسيقانهن وربما تعدى الأمر إلى كشف الأفخاذ وما وراء ذلك من السوءات والعورات.
ولقد انعكس الأمر حين انتكست الْفِطَرُ وانعكست المفاهيم وغَلَبَ الرَّانُ على القلوب وأصبح الرجال هم العورات وعليهم أن يَتَسَتَّرُوا ولا يظهر من أحدهم إلا القليل من وجهه حتى تغطيَ عمامتُه جَبْهَتَهُ إنْ وُجِدَتِ العمامة أَصْلاً حتى لا يكاد يرى الطريق من وضع تلك العمامة التي وصلت فوق أنفه وغَطَّتْ معظم وجهه وسَحَبَ ثوبَه وجَرَّهُ على الأرض لِيَسْتُرَ قَدَمَيْهِ لأنهما في نظره عورة لا يجوز للرجال أو النساء النظر إليهما، وغَطَّى كَفَّيْهِ بِطُولِ الكُمَّيْنِ في الثوب، أما المرأة فكما تقدم فقد قَصَّرَتْ ثَوْبَهَا إلى نصف الساق إن وُجِدَ الثوب حيث انتشر الْبِنْطَالُ وملابس الكافرات، وشَمَّرَتِ المرأة أيضًا عن سَاعِدَيْهَا وأظهرت محاسنها ومفاتنها الأخرى لأنها هي الرجل في الوقت الحاضر، والأدْهَى والأمَرُّ من ذلك والغريبُ في الأمر أن أولئك القوم مع المسلمين في الصلاة والصيام ومع ذلك يستغربون تعاليم الإسلام التي تأمر باحتشام المرأة ووجوب صيانتها عن أعين الرجال الأجانب والمحافظة عليها من جانب الرجل لأن له القوامة عليها وهو المسؤول عنها، ومع ذلك فإن دعاة التغريب يتركون لها الحبل على الغارب باسم الثقة والتقدم والتطور والعلم وما إلى ذلك من تُرَّهَاتٍ وانحطاط وسفالة ودناءة نفوس وبُعْدٍ عن الإسلام وتعاليمه.
وفي المقابل ينكرون على المتَدَيِّنَاتِ الْتِزَامَهُنَّ بالحجاب الشرعي ويَتَفَوَّهُونَ بعبارات تخرجهم عن ملة الإسلام وهم لا يشعرون، ويقولون أكثر من مقولات عبد الله بن أبيّ بن سلول وأتباعه الذين أُنزل فيهم وفي أمثالهم قرآنٌ يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 65، 66]. وينكرون أيضًا على المتدينين من الشباب تَقْصِيرَهُمْ لثيابهم والْتِزَامَهُمْ السنة في ذلك ورغبتَهم في التقيد بأحاديث المصطفى ، إما لجهلهم بتلك الأحاديث أو لمرض النفاق في قلوبهم ويطلقون لألسنتهم الْعَنَانَ.
وكان الأولى والأجدر بهم أن يُقْلِعُوا عن غَيِّهِم وضلالهم، فيلتزم الرجل بسنة المصطفى في جعل ثيابه ما بين نصف الساق إلى ما فوق الكعبين، ويُقَصِّر أَكْمَامَهُ إلى الرُّسْغَيْنِ، ويُظْهِر وجهه وتَذِلّ جبهتُه لله رب العالمين حين السجود ومباشرة الجبهة مع الأنف للأرض التي هي من ضِمْنِ الأعضاء السبعة الواجبِ السجود عليها. ويُلْزِمُوا أيضًا نساءَهم من زوجات وبنات وأخوات ومن كان تحت أيديهم حتى الخادمات بالحجاب الشرعي الذي لا يظهر معه قدر أنملة من المرأة لأي رجل أجنبي عنها، ولأن الله عز وجل سوف يسألهم عن ذلك، وسوف تكون الإجابةُ متعثِّرَةً، والعذرُ بالجهل غير مقبول منهم في هذا العصر إلا لمن رحم الله ولمن شاء سبحانه حيث أن الناس يعصون الله على علم منهم وبصيرة.
وإن الواجب على المسلمين اليوم امتثال أمر الله وأمر رسوله خاصة في حجاب المرأة وتحجيبها عن الرجال الأجانب ابتداءً بأخي الزوج وخاله وعمه وابن عمه وابن خاله وابن عمها وابن خالها وغيرهم وعدم السماح لهن بالاختلاط والخلوة بالرجال في أماكن العمل وغيرها من المجتمعات المختلطة بما فيها المناسبات والمتنزهات ومحلات الألعاب التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وعدم السماح أيضًا للمرأة بركوب السيارة لوحدها مع أجنبي عنها، وسوف تَحُولُ العراقيلُ والعقباتُ والتَّسْوِيفَاتُ دون تحقيق ذلك عند بعض الناس، ولكن مع حسن النية وصدق العزيمة سوف يتم التغلب عليه بإذن الله تعالى.
وليس الرجالُ أَشْرَفَ ولا أَغْيَرَ من رسول الله ولا صحابته الكرام، وليست النساءُ أشرفَ ولا أعفَّ ولا أطهرَ من أزواج رسولنا محمد أو بناته أو نساء الصحابة رضي الله عن الجميع الذين مَرَّ عليهم قرابة تسع عشرة سنة بعد البعثة وقبل أن يُفْرَضَ الحجابُ على النساء ولم يتردد أحد من الرجال والنساء في امتثال أمر الله وأمر رسوله .
إنَّ الخيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ في العمل بكتاب الله وسنة رسوله عن قناعة وإخلاص وصدق وصواب في العمل، والشَّرَّ كُلَّ الشَّرِّ في البعد عن ذلك ومخالفة أمر الله ورسوله، فعلى المسلمين عمومًا تطبيقُ تعاليم الإسلام والْعَضُّ عليها بالنواجذ، ولتتحرك الغيرة فيهم على محارمهم ويمنعونهن من كل شيء يخْدُشُ الْعِرْضَ ويَجْرحُ الكرامةَ ويُذْهِبُ الحياءَ، وليقفوا سَدًّا مَنِيعًا وحاجزًا قويًا لإغْلاقِ وَسَدِّ كل الأبواب والطرق التي تقودهن إلى الشر والهلكة والاختلاط والسفور والوقوع في الفواحش، مع الحرص على جعلهن جواهر مَصُونَة لا يُرَى من إحداهن شَيْءٌ أبدًا، بل تكون الواحدة مستورة من أعلى رأسها إلى أَخْمصِ قَدَمَيْهَا لا يُرى منها قدر أنملة إلا السواد متى كانت محتاجة لذلك الخروج، لئلا يطمع فيها طامع أو تمتد إليها يَدُ وَحْشٍ مُفْتَرِسٍ لِكَرَامَتِهَا وَعِفَّتِهَا، وعليهم أن يُبْعِدُوهُنَّ عن خفافيش الظلام التي تَسْرِي بالليل وتخطط للإيقاع بالإسلام وأهله عن طريقهن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، وقال عز وجل: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]، وقال عز وجل: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
|