لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].
أيها الإخوة، لا زلنا نتدبّر القرآن الكريم ونعتبر بما فيه من قصص، ووصلنا في الجمعة الماضية إلى أن إخوان يوسف نجحوا في إقناع والدهم النبيّ يعقوب بإرسال شقيق يوسف بنيامين إليه في مصر، وبما أن الأحداث الحالية التي نعيشها الآن في فلسطين في نفس المنطقة أرض كنعان وكلّنا يسمع ويرى ما يحدث لإخواننا في أرض فلسطين من اليهود الغاصبين، وكما حسدوا أخاهم يوسف وحاولوا قتله فإن هذه البذرة السيّئة لا تزال فيهم، ولن تنفك عنهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
واسمحوا لي ما دام الوضع كما نرى أن نتحدث عن بني إسرائيل وما فعلوه في الأنبياء والرسل، وذلك بأن نتدبر القرآن الكريم أيضًا، وأن نأتي بشواهد منه أو من سنة نبينا محمد .
قال الله تعالى عنهم: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 60]. لم تجتمع كل هذه الصفات الذميمة إلا في اليهود قاتلهم الله، فقد لعنهم الله وطردهم من رحمته وغضب عليهم مبالغة وتأكيدا على جرمهم وفسادهم، بل مسخهم إلى قردة وخنازير، وهؤلاء عبدوا الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله من بشر أو شجر أو حجر أو هوى نفس أو مادة أو نساء أو غرض دنيوي زائل، وختم الله سبحانه الآية بقوله: أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ أي: أدنى منزلة من غيرهم وأبعد الناس عن طريق الهدى والاستقامة.
ورُبَّ قائل يسأل: ماذا فعل اليهود حتى استحقّوا كل هذه الأوصاف الدنيئة والعاقبة الفظيعة؟ فأقول: إن بني إسرائيل ـ وإسرائيل هذا هو اسم نبي الله يعقوب أبي يوسف ـ ما تركوا جريمة منكرة إلا فعلوها، ولا ضلالة إلا اتبعوها، والآيات الكريمة في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في وصفهم وبيان ما فعلوه كثيرة، حتى إنها لتصوّر جرائمهم أبلغ تصوير، فهم الذين عبدوا العجل لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه ليلقيَ إليه الألواح التي فيها شرائعهم وعقائدهم، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة: 51]. ولما أنزل الله عليهم المن والسلوى وهما أطيب أنواع الطعام وجعل السحاب والغمام يظلّهم وساترًا لهم من حرارة الشمس جحدوا نعمة الله عليهم وقالوا: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة: 61]، وطلبوا بدلاً من ذلك العدس والبصل والثوم. ولما أمرهم بدخول القرية المقدسة ماذا كان موقفهم؟ فلنستمع سويًا للسياق القرآني في ذلك: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة: 58، 59]، ومعنى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ أي: أن الكلمة التي بدلوها وهي قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ أي: قولوا: اللهم احطط عنا خطايانا وذنوبنا، فبدلاً من ذلك سخروا وقالوا: حبة حنطة في حبة شعير؛ مستهزئين وساخرين بالله ورسوله، فهل رأيتم ـ معشر المؤمنين ـ أناسا بمثل هذه الأخلاق يسخرون بأوامر الله سبحانه وتعالى وبأوامر رسوله موسى عليه السلام؟!
ولقد أرسل الله إلى بني إسرائيل من الأنبياء والرسل ما لم يرسل إلى أمة من الأمم، ذلك لكثرة تكذيبهم ولحقارة ودناءة نفوسهم، فلقد كانوا يقتلون أنبياءهم ويقدمون رؤوس بعضهم مهورا للبغايا منهم ولبنات الهوى، ولنستبين ونعرف عظيم جرمهم فاسمعوا ماذا يقول لكم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : (كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوقَ بقلهم في آخر النهار) أي: أنهم يبيعون ويشترون وكأنهم لم يقتلوا أنفسا بشرية، إنما قتلوا حشرات، والرسول يقول: ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيًا)) رواه أحمد. تأملوا شدة العذاب ومع ذلك لا يبالون؛ لأن أنفسهم خبيثة، وهذا متوارث فيهم جيلا بعد جيل. ولقد حاولوا قتل الحبيب محمد لما ذهب إلى يهود بني النضير يستعين بهم على قضاء ديتين كانتا على المسلمين، أجلسوه تحت جدار وأرادوا أن يلقوا على رأسه حجرًا ليقتلوه بأبي هو وأمي ، فأتاه الخبر من السماء سريعًا، فأمر بإجلائهم وإخراجهم من المدينة المنوّرة، مع أن النبي كان قد عمل معهم اتفاقيات وعهودا ومواثيق حين دخوله إلى المدينة في أول هجرته مع أصحابه رضي الله عنهم. ووضعت يهوديّة سمّا له حينما علمت من أي موضع من الشاة يحب ، فأُخْبِرَت بأنه الذراع، فسمت ذراع الشاة وقدمتها له هدية، فأكل ولم يستسِغه، فتفله وقال: ((إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة)) أو كما قال ، وأكل معه صحابي جليل فمات .
ولقد بلغ اليهود أحقر وأخسّ مرتبة من الدناءة حينما سبوا الله، تعالى الله علوا كبيرًا عما يقول هؤلاء الأنجاس، وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64].
واليهود هم أعدى أعداء المسلمين، وعداوتهم لنا تاريخية قديمة قدم التاريخ نفسه، ويشهد بذلك ربنا ولا أعظم شهادة من الله إذ يقول: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82]، ويصفهم الله بوصف قبيح: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64] أي: أنهم يجتهدون في نشر الفساد بكل أنواعه في الأرض، فتجدهم وراء نشر دور الدعارة في العالم، وهم وراء نشر الأفلام الإباحية والجنس في كل مكان، وهم الذين ينشرون الفساد الخلقي والعقائدي وينقضون العهود والمواثيق، ونقض العهود من سماتهم وصفاتهم المتأصلة في نفوسهم، يتوارثون هذه الصفة كابرًا عن كابر وأبًا عن جد، ويتفاخرون بذلك، ولقد نقضوا عهودَ موسى وعيسى وسيّدنا محمّد حينما خذلوا المسلمين في غزوة الأحزاب بالتفاهم والتآمر مع مشركي مكة بأن يطبقوا على النبي وصحبه من الجهتين: المشركون من جهة واليهود من خلف المسلمين، ولكن الله خيب أملهم، وبعد انتهاء الغزوة لم يتركهم النبي ، بل بأمر الله قام بقتل مقاتليهم وكل من بلغ من الرجال، وسبى ذريتهم ونساءهم، ولا يؤدبهم إلا هذا الأسلوب منذ عهد نبينا محمد حتى قيام الساعة؛ لأن هذا ديدنهم وهذه طبيعتهم؛ لا يتوقفون عن نقض العهود والخيانة إلا بالسيف، أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 100].
ومن هنا يجب على جميع المسلمين العارفين لدينهم جيدًا أن لا يطمعوا أو يأملوا في ودّ أو صلح مع بني إسرائيل في يوم من الأيام، وهذا حكم القرآن فيهم، وهذا وصف الله لهم، والذي يشك في هذا فليراجع إيمانه، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء: 122]، يقول تعالى مؤكدًا وضعهم الحقير: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران: 112]، إن في الآية حكمًا عليهم من الله بالصَّغَار والهوان والذلة إلى يوم القيامة.
ورُبّ سائل يقول: كيف ضربت عليهم الذلة وهم الذين يتسلطون على المسلمين في فلسطين ويقتلون يوميًا عشرات من المسلمين العزل دون خوف من ردع قوي فعال؟! والجواب بمراجعة الآية السابقة في قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ، والمعنى: أن الذلة مضروبة عليهم دائمًا وأبدًا، والاستثناء هو بحبل من الله أي: إلا بعهد الله لهم إن كانوا تحت حماية المسلمين تحت ظل الدولة الإسلامية، وهذا غير متوفر في وقتنا الحاضر، إذًا يبقى حبل من الناس ومعناه أي: وسيلة تؤدّي إلى عز اليهود وتمكنهم وذل المسلمين لابتعادهم عن دينهم وتفرقهم وتشتتهم وتركهم الجهاد الذي قال عنه النبي : ((ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا))، وهذا هو الذي استفاد منه أعداء الدين، ونشروا الفساد، وأخرجوا المرأة من بيتها، واستخدموها كأداة إضلال وإفساد، وأقاموا نوادي العراة السرية، وأمدّوها بالأموال، ونشروا المخدّرات بين أبناء المسلمين؛ لأنهم يعلمون بأنهم لا يستطيعون أن يتحركوا أو يعيشوا إلا باستغلال هذا الحبل، وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ، والعمل على إشغال المسلمين بكل ما يبعدهم عن دينهم. وانظروا إليهم كيف هم خائفون من شباب الحجارة حكومة وشعبًا، وصدق الله تعالى إذ يقول: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14].
أيها المؤمنون، هل من عودة صادقة إلى تعاليم القرآن الكريم وتدبره والعمل بما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه واتباع سنة نبينا محمد ؟! إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة، وصدق رسول الله حيث يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة ـ أي: تبايعتم بالربا، وهذا ما يحدث عياذا بالله في جميع أنحاء العالم ـ وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|