.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

ختام العام الهجري

5742

الرقاق والأخلاق والآداب

اغتنام الأوقات

هتلان بن علي الهتلان

الظهران

30/12/1427

جامع محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- تعاقب الليالي والأيام. 2- دعوة للمحاسبة الجادة. 3- التذكير بالموت والمصير. 4- التذكير بأحوال إخواننا في فلسطين. 5- تكالب الأعداء على أمة الإسلام. 6- التحذير من فكر التكفير.

الخطبة الأولى

أما بعد: معاشر الإخوة، تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام، وإن في مرورها لعبرةً وعظة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا. وها أنتم تزدلفون إلى عام جديد وتودّعون عامًا من عمركم، مضى بما أودعتموه من عمل، ومهما عشت ـ يا ابن آدم ـ فإلى الثمانين أو التسعين وهبك بلغتَ المائتين، فما أقصرها من مدة! وما أقله من عمر! قيل لنوح عليه السلام وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا: كيف رأيت هذه الدنيا؟ فقال: (كداخل من باب وخارج من آخر).

فاتقوا الله أيها الناس، وتبصروا في هذه الأيام والليالي؛ فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم عن الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم هذه الأيام بما يقربه إلى الله، طوبى لعبد شغلها بالطاعة واتعظ بما فيها من العظات، تنقضي الأعمار، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44].

عباد الله، جمعتكم هذه هي آخر جمعة من هذا العام، بل وآخر يوم من هذا العام الهجري، فهنيئًا لمن أحسن فيه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام، فهلم نتساءل عن هذا العام: كيف قضيناه؟ ولنفتش كتاب أعمالنا: كيف أمليناه؟ فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرًا تبنا إلى الله واستغفرناه. وإنه لحري بالمسلم أن يحاسب نفسه، بل على المجتمع أن يحاسب نفسه، وعلى الأمة جميعًا أن تحاسب نفسها وتقف مع نفسها وقفات ومراجعات، كم يتمنى المرء تمام شهره وهو يعلم أن ذلك يُنقِص من عمره، وأنها مراحل يقطعها من سفره، وصفحات يطوِيها من دفتره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعدّ للقدوم إلى ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه؟!

عباد الله، ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع وتغرب، ففي طلوعها ثم غروبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما هي طلوع ثم غروب، ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام؟! فأنتم تودعون عامًا شهيدًا عليكم وتستقبلون العام الجديد.

فليقف كل منا مع نفسه محاسبًا: ماذا أسلفتُ في عامِي الماضي؟ فإن كان خيرًا ازداد، وإن يكن غير ذلك أقلع وأناب، فإنما تمحَى السيئة بالحسنة، قال : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)). ليحاسب كل منا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها، عن حقوق المخلوقين والتخلص منها، عن أمواله التي جمعها من أين جاءت؟ وكيف ينفقها؟ ليتساءل عن علاقته بنفسه مع ربه ومع الناس أجمعين.

أيها الناس، حاسبوا أنفسكم اليوم فأنتم أقدر على العلاج منكم غدًا، فإنكم لا تدرون ما يأتي به الغد، حاسبوها في ختام عامكم وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم، وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها. خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: (إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيِّب عنكم عِلمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18]).

هل نظر الإنسان وفكر كما فكر ابن الصمّة وهو أحد الصالحين؟! فذات مرة جلس مع نفسه يحاسبها فقال: كم عمري الآن؟! فتذكر أنه ابن ستين سنة، فأخذ يحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفًا وخمسمائة يوم، فقال يحاسب نفسه: ويلتا أألقى الله بواحد وعشرين ألفًا وخمسمائة ذنب؟! هذا على فرض أن الإنسان يذنب ذنبًا واحدًا كل يوم فقط، كيف وفي كل يوم عشرات الذنوب؟! فجعل يبكي ويبكي حتى سقط مغشيًا عليه ثم مات رحمه الله، فلما مات سمعوا من يقول: يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى!

وفي الحديث الذي رواه الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ميت مات إلا وندم، إن كان محسنًا ندم أن لا يكون قد ازداد إحسانا، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون قد استعتب))، فإن كان المحسن يندم على ترك الزيادة في عمله فكيف يكون حال المسيء؟! إنما أنت أيام، فكلما ذهب يومك ذهب بعضك.

نسير إلَى الآجال في كل لحظة   وأيـامنا تطوى وهنّ مراحل

ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيـام وهنّ قلائـل

إنـا لنفـرح بالأيـام نقطعـهـا      وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الْموت مُجتهدا      فإنَّما الربح والخسران في العمل

أيها المسلم، راجع نفسك على أي شيء تطوى صحائف هذا العام؟ فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعات أو أيام، فاستدرك عمرا قد أضعت أوّله، قال النبي : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).

معاشر الإخوة، والله، لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتخبرنَّ بما كنتم تعلمون، فجنةٌ للمطيعين، ونار جهنم للعاصين، أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: 40].

إخوتي في الله، من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ثم اشتدّت عليه حسراته، وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة، وتقوده أيامه إلى المزيد من الردى والشقوة؟! إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين، فانتبهوا بإيقاظه واعتبروا بألفاظه.

ألا ينظر الناس فقد وهن العظم وابيض الشعر ورحل الأقران ولم يبق إلا الرحيل؟! عجيب حال هذا الغافل: يوقن بالموت ثم ينساه! ويتحقق من الضرر ثم يغشاه! يخشى الناس والله أحق أن يخشاه! يغتر بالصحة وينسى السقم! ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم! يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم! يهتم بالعلم ولا يكترث بالعمل! يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل! يطول عمره ويزداد ذنبه! يبيض شعره ويسودّ قلبه! قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحقّ عزاؤها.

سبحان الله عباد الله، ألم يأن لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟! أما علموا أن حياتها عناء ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى وملكها يفنى، ودها ينقطع وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل إما في نعم زائلة أو بلايا نازلة أو منايا قاضية؟!

يا قوم، إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39]، العمر قصير، والخطر المحدق كبير، والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.

إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الأحبة ـ فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا سوى الجنة أو النار. ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، من صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.

والمحاسبة الصادقة ما أورثت عملاً، فعليك ـ يا عبد الله ـ أن تستدرك ما فات بما بقي، فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسر من غير عمل. واعلم أن من أصلح ما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وبما بقي. والموت يأتيك بغتة، فأعط كل لحظة حقها، وكل نفَس قيمته، فالأيام مطايا، والأنفاس خطوات، والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن، الخسارة نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت حسيب نفسك.

عباد الله، لنتذكر بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فكم ولِد في هذا العام من مولود! وكم مات من حي! وكم استغنى فيه من فقير وافتقر من غني! وكم عز فيه من ذليل وذل فيه من عزيز! كم من قريب لنا وخليل وصاحب افتقدناه هذا العام وأفضى إلى ما قدم وعمل! نسأل الله أن يغفر لإخواننا وأخواتنا المسلمين.

أيها الإخوة، الأعمال بالخواتيم، فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، الموتى يتحسّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته وبقيت تبِعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وميقاته. في صحيح البخاري يقول النبي : ((أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره)).

فيا من كلّما طال عمره زاد ذنبه، وكلما ابيض شعره بمرور الأيام اسود قلبه بالآثام، شيخ كبير له ذنوب تعجز عن حملها المطايا، قد بيّضت شعره الليالي وسوّدت قلبه الخطايا، يا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مشتغل في نوم الغفلة والسنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا، يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور ويسمع الآيات والسور فلا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور، ما الحيلة ـ عباد الله ـ فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور؟! فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40].

ويا ابن آدم، كلما مضى عام من عمرك اقتربت من الموت وسكراته، فاقتربت من القبر وعذابه أو نعيمه، والقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران.

هل فكرت ـ أيها المسلم ـ متى يحملك أهلك وأصحابك على عرش، فإن كانت جنازتك صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها إلى أين يذهبون بها؟! هل فكرت ـ يا ابن آدم ـ في هذه اللحظة لحظة مصرعك وانتقالك إذا انتقلت من السعة إلى الضيق، وأُخِذت من الأهل والأصحاب، وتركت وحيدًا في قبرك لا أنيس ولا صاحب ولا معين إلا ما عملت من عمل؟!

انظر إلى نهايتك المحتومة إما إلى نار أو إلى جنة، إما إلى نار قعرها بعيد وحرّها شديد وعذابها سعير، نار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم ألف عام حتى ابيضت، ثم ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يضيء شررها ولا يطفأ لهيبها، نار عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يوم يقول الجبار: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذراعها سبعون ذراعًا فاسلكوه، قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور: 13، 14]، وقال: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 15، 16]، وقال: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ [الفجر: 23-25]. نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من سخطه والنار، ونسأل جنته ومرضاته.

أو إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون.

فاتقوا الله رحمكم الله، وتزودوا في دنياكم ما تحرزون إلى أنفسكم غدًا، فمن اتقى الله نصح نفسه وقدم توبته وقاوم شهوته.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين وللمؤمنات، فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله هدم بالموت مشيد الأعمار، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، حكم بالفناء على أهل هذه الدار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من عذاب النار، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين والأنصار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.

أما بعد: أيها المسلمون، وإن على الأمة جمعاء أن تحاسب نفسها وتقف وقفات صادقة مع حالها وهي تودع عامًا هجريًا: ما حال مقدساتها؟ وأراضي القدس السليبة لا تزال تئنّ تحت وطأة اليهود الغاصبين أبناء القردة والخنازير، والمسجد الأقصى سويداء العين وسواد القلب عثا فيه اليهود وعثوا في الأرض المباركة من حوله هدمًا وتخريبًا وتقتيلاً وتشريدًا. إنها لحسرة وندامة وذلة أن ينصرم هذا العام ولا زالت أولى القبلتين وثالث المسجدين تحت وطأة اليهود المعتدين، ناهيك عن شلالات الدماء وقطع الأشلاء الكثيرة في أقطار شتى من المعمورة من أرض الإسلام.

كم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويتلمس حنان الأم الرؤوم، يرنو إلى من يمسح رأسه ويكفكف دمعته ويخفف بؤسه ويزيل لوعته! كم من أرملة توالت عليها المحن، فقدت عشيرها فاستبدلت كما استبدل أمثالها بعد العز ذلاً وبعد الرضا والهناء فاقة وفقرًا!

ولقد تكالب الأعداء على المسلمين من كل حدب وصوب، وأخذت أرصد أمة الإسلام تنقص من أطرافها، ففقدت أقطار وأمم وانتهكت محارم واستبيحت مقدسات، ودارت رحى الحرب على المسلمين حتى تداعت عليهم الأمم والشعوب، وتحقق فيهم قول المصطفى : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن))، قالوا: وما الوهن؟! قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)). فهذا هو الوهن وهو سر الضعف الأصيل؛ أن يعيش الناس عبيدًا لدنياهم عشاقًا لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم شهواتها، وتموج بهم كالخاتم في الأصبع حين يكره المسلمون الموت ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم.

وإنهم لو تمسكوا بكتاب ربهم وعملوا بسنة نبيهم وحققوا الإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا لنصرهم الله وأعزهم، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]، وقال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 88]. فالنصر للمؤمنين وليس للفاسقين ولا المخربين ولا الظالمين، وإن هزيمة الأعداء ليست ببعيدة على الله تعالى ولا عزيزة عليه، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، فحين ينصر المسلمون الله عز وجل في أنفسهم وفي أهليهم وذرياتهم وفي معاملاتهم وتجاراتهم وفي مجتمعاتهم فإن الله ينصرهم على عدوهم، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197]، ولله في ذلك حكمة لقوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف: 14].

أيها المسلمون، ماذا جنت الأمة من موجة التكفير ومسلسلات التخريب والتفجير التي أطلت بظلّها السام على المسلمين؟! رحماك يا رب، يوجَّه السلاح وتولى البندقية إلى رقاب المسلمين! وممن؟ من أناس ينطقون الشهادتين ويصلون ويصومون! يا سبحان الله!! أي إسلام وأي دين وأي مروءة يجعل الإنسان يستحلّ دم أخيه المسلم ويسعى بالخراب والدمار والفساد والإفساد في مجتمعات المسلمين ويهلك الحرث والنسل ولا يقبل الحق ولا يستمع للنصح إلا ما أشرب من هواه؟! أما آن للأمة أن تراجع نفسها وتقضيَ على هذا الفكر المخرَّق فكر التكفير والتخريب واستباحة الدماء المعصومة كمعالجة الأسباب بفعل وعدل وإنصاف؟! أما آن لهؤلاء الأغرار أن يتّقوا الله تعالى ويدركوا خطر ما أقدموا عليه وقبح ما يخططون له؟! فالذنب عظيم، إي وربي إنه لعظيم، والخطيئة كبيرة، إي وربي إنها لكبيرة، فزوال الكعبة المشرّفة أهون عند الله من إراقة دم مسلم. فهلا جعلنا من توديعنا لعامنا المنصرم وقفة محاسبة لجميع المحطات، واستقبلنا عامنا الجديد بتوبة وأوبة صادقة واستمساك بدين ربنا عز وجل الذي لا صلاح ولا سعادة للمرء في الدنيا والآخرة إلا بذلك؟!

فيا أيها المسلمون، هذا عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه وقوّضت خيامه وغابت شمسه واضمحل هلاله؛ إيذانًا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دار إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرت من مخلد فيها! وصرعت من مكب عليها! فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي بمنكبي وقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً