أما بعد: في مثل هذه الأيام الباردة الشاتية تخيّل نفسك مع أمك وأبيك وزوجتك وأولادك في ليلة مطيرة وأنتم جميعا في منزل تهدّمت أبوابه وتكسّرت نوافذه وانقطع عنكم الماء والكهرباء، أطفالك يصرخون من الجوع والبرد، وزوجتك الحُبلى يُقطّعها الألم ولا تستطيع شراء الدواء لها، ووالداك شيخان كبيران قد شحبت وجوههما ورقّ عظمهما وزاد مرضهما وعناؤهما، تخيّل نفسك في هذه الحال ولا مال لديك لشراء الغذاء والدواء، وإذا ضاقت بك الحيلة لطلب العلاج خرجت بوالديك وأطفالك مشيًا على الأقدام في هذا البرد القارص، مشيت إلى المستشفى فإذا به خواء ليس فيه إلا الأنين والصراخ، فعشرات المرضى قد سبقوك بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وهم ينتظرون ولكن لا دواء ولا أجهزة؛ لأن الكهرباء مقطوعة.
إخواني، إن هذه المأساة التي أعرضها لكم ليست من نسج الخيال، إنما هي حقيقة يعانيها إخواننا المحاصرون في غزة. إن عرض هذه المأساة ليست تقريرا إخباريا، ولكنّه تذكير بالواجب الذي تقتضيه الأخوة الإسلامية من النُصرة، يقول الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، ويقول جل شأنه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وقال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))، ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
إن عرض هذه المأساة تذكير لنا بنعمة الأمن التي نعيشها، إن عرض هذه المأساة تذكير لنا بأن الغفلة واللامبالاة بما يحل بالمسلمين من نكبات قد تؤدّي لحلول العقوبة بالغافلين اللاهين الذين لا تتمعّر وجوههم ولا تتألم نفوسهم لِمَا يحُلّ بإخوانهم.
بلغ عدد الموتى بسبب هذا الحصار المائة، وجُلّهم من المرضى والأطفال. إن إسرائيل تتحكّم بـ80 في المائة من كهرباء غزة، وبـ100 في المائة من المياه، وبـ70 في المائة من الوقود.
يا إخوان، إن الذي يجري في غزة ليس حصارا، إنما هو حرب إبادة لشعب اختار العيش بكرامة، إنه عقاب جماعي لشعب اختار الإسلام حلا وحاكما.
أيها المسلمون، في غزة أكثر من مليون وخمسمائة ألف مسلم يواجهون الإبادة الجماعية، لماذا؟ لأنهم أرادوا الإسلام نظاما يحكمهم، لأنهم لم ينتخبوا نظاما علمانيا، لأنهم أرادوا أن يعيشوا أحرارا كرماء، لأنهم وقفوا في وجه المحتل وقالوا في عزة وإباء: سنقاتلكم أيها اليهود، بكل نطفة في أصلاب الرجال، وبكل جنين في أرحام النساء، وبكل نسمة في الهواء، وبكل قطرة ماء وذرة هواء.
معاشر المسلمين، إن إخوانكم في غزة يعيشون مأساة حقيقية، انظروا ماذا حل بالناس يوم ارتفعت الأسعار، انظروا كيف ضجر الجميع عندما انهارت الأسهم، تأملوا كيف يصيب الناس الخوف، كيف يتأففون عندما تتأثّر وتتكدّر معايشهم وأرزاقهم، فكيف بمن حياته كلها كدر؟! دخوله كدر، وخروجه كدر، ونومه كدر، وقيامه كدر، يرى البؤس والشقاء في أعين أطفاله وفي عظام أبيه وأمه.
أحبتي في الله، إغلاق 4000 مصنع و3000 متجر عن العمل يصيب الحياة بالشلل، لم يعد هناك نشاط يسمى تجاريا إلا بالمبادلة اليدوية، تُعطيه زيتونا ويعطيك زيتا، تعطيه دقيقا ويعطيك بيضا، عادت الحياة إلى نمط بدائي بحت.
إخواني، المياه في قطاع غزة تنذر بكارثة بيئية، فنسبة الملُوحَة التي يتحملها الإنسان العادي من أجل سلامة الكلى لا تتعدى نسبةً في المائة، ونسبة الأملاح في المياه الملوثة فوق ذلك بكثير، ولا خيار لهم. أكثر من 70 في المائة من الأسر يعيشون تحت خط الفقر، فأين منظمات حقوق الإنسان التي تجوب مجاهل إفريقيا وتتكلم عن الفقر والمجاعة؟! اليوم البؤس والمجاعة موجودة في فلسطين بجوار إسرائيل التي تدّعي الديمقراطية ويقول الغرب: إنها نموذج الديمقراطية الذي يجب أن يحتذَى! فأين هذه الديمقراطية يوم أن اختار فلسطينيون حكم الإسلام؟!
يا إخوان، أكثر من 65 ألف شاب سُرحوا وأبعدوا عن وظائفهم؛ لا توجد مواد خام تُشغل المصانع أو تُوجِد للناس فرص عمل. أكثر من 80 في المائة من المحصول الزراعي دائما يُعرّض للتلَف بسبب الحصار، فالمُزارع السكين يزرع ويحرث ويسقي ويشقى من الصباح إلى الغروب وإذا حصد محصوله قيل له: لن تستطيع أن تبيع أكثر من 20 في المائة منه والباقي يفسد عندك وأمام عينيك، لماذا؟ لأنك اخترت الإسلام خيارا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
إغلاق المعابر وإغلاق الطرق يجعلهم يخسرون كل يوم الملايين من الدولارات، ويتوقّع المراقبون أن القطاع مقبل على كارثة بيئية واقتصادية وإنسانية خطيرة بسبب نقص الأدوية وقلة المخزون الغذائي وارتفاع الأسعار وزيادة مستوى التضخم. أخذ الدواء يتناقص في القطاع، ومات بسبب ذلك المئات من المرضى، هناك 450 مريضا بالسرطان في قطاع غزة، و400 مصاب بالفشل الكلوي، ونحو 450 مريضا بالقلب، هؤلاء معرّضون للموت جراء عدم توفر الأدوية والأجهزة الكافية لمتابعة حالاتهم، فضلاً عن منعهم من السفر.
ويزامن هذا الحصار حصار من نوع آخر، حصار العلم والمعرفة الذي لا يقلّ خطرا وضررا على المدى البعيد من الحصار الاقتصادي والمعيشي، فلقد منعت سلطات الاحتلال أكثر من 300 ألف طالب وطالبة من السفر للالتحاق بالمدارس والجامعات الأخرى، لماذا؟ حتى لا يعودوا إلى بلادهم أساتذة وخبراء ومختصين قادرين على إدارة شؤون بلادهم، حتى تمتلئ البلاد بالجهَلَة والأميين والمتخلفين ليتحول قطاع غزة إلى قطاع عمّال.
أما تحويل المال إلى قطاع غزة وتبرع الأهالي الذين يعيشون خارج فلسطين والذين يريدون أن يقفوا مع أهليهم فإن مشهدا جديدا من الحصار قد وقف على أبواب الحوالات المصرفية حيث كشفت مصادر فلسطينية أن الشركات العالمية العاملة في تحويل الأموال بالطرق السريعة إلى فلسطين وغزة خاصّة قد شُدِّد عليها وأصبح تحويل المال أمرا ليس يسيرا، لكن مع ذلك فإن هذا ليس بعذر أن نتوقّف عن دعم إخواننا في غزة والقطاع.
والله، إن مروجي المخدرات إذا سمعوا بنوع من المخدّر في بلاد من البلدان أشغلوا عقولهم بحثا عنه واجتهادا في الوصول إليه حتى يتمكّنوا منه، وإن أهل الفساد يوم أن يروا صورة راقصة على شاشة الفضائيات قلّبوا بأساليبهم وطرقهم حتى يعرفوا مكانها ليصلوا إليها أو هي تصل إليهم! فهل نعجز ـ يا عباد الله ـ أن نفكر أو نبحث أو نجتهد عن طريق من خلالها نوصل ما نستطيع من أجل غذاءٍ يُنقذ بيتا ودواء ينقذ طفلا وكساء ينقذ يتيما، والله ما هذا بعذر، فمن فتش وجد، ومن قلّب واجتهد فلن يعدم حيلة، يقول أحدهم: لقد رأيت وسمعت عن أناس لم يدخل اللحم في بيوتهم منذ سنة بل أكثر إلاَّ صدقة أو زكاة! ويذهبون إلى محلاَّت ذبح الدجاج ليعثروا على بقايا أرجلها؛ حيث يُوفّرها لهم أصحاب تلك المحلاَّت! ورأينا أناسًا يومًا يأكلون غداء فقط، ويومًا آخر يأكلون عشاءا!
وفوق هذا الحصار في كلّ يوم يصبّحهم اليهود ويمسّونهم بغارة ترمي فيها الطائرات بمئات الأطنان من القنابل التي تُسوّى بها المنازل بالأرض، فما بالك بأجساد الأطفال والنساء والشيوخ؟! أما يكفي هذا الحصار؟! أما يكفي التجويع؟! أما يكفي المرض؟! أما يكفي الإذلال؟! مع هذا كله القنابل والنار والدمار، اللهم رحماك يا رب بأهل غزة، رحماك بهؤلاء الأطفال الرضع والشيوخ الركّع.
|