أما بعد: فعلينا أن نتقي الله حق تقاته ونطيعه ونعلم أننا فقراء إلى الله ضعفاء مهما بلغ الشخص من القوة، محتاجون إليه سبحانه في كل نَفَسٍ ولحظة وثانية، بل وفي كل طرفة عين وأقلّ من ذلك. إن الغفلة تعترينا في كثير من أمورنا وأحوالنا وأوقاتنا، وذلك من الشيطان الرجيم العدوّ المبين والنفس الأمارة بالسوء وجلساء السوء من شياطين الإنس بعد شياطين الجن، ولكن علينا أن نتذكر ونتفكر دائمًا ونراجع أنفسنا ونحاسبها ونتَّعظ ونتدبَّر ونرجع إلى ربنا ونستغفره ونتوب إليه، فهو خير لنا في عاجل أمرنا وآجله وديننا ودنيانا وآخرتنا.
إن الله تعالى مع غناه عنا يأمرنا بدعائه ليستجيب لنا، وسؤاله ليعطينا، واستغفاره ليغفر لنا، ونحن مع فقرنا وعجزنا وضعفنا وحاجتنا إليه نعصيه ونعرض عنه، مع علمنا أن معصيته تسبّب غضبه علينا وعقوبته لنا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 15-17]، وقال عز وجل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وقال سبحانه وبحمده: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عاشر عشرة رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله ، فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهنّ: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابْتُلُوا بالطواعين والأوجاع ـ أي: الأمراض ـ التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ إلا ابتلوا بالسنين وشدة المَؤُونة وجَوْر السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا المطر القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
ففي هذا الحديث الشريف توضيح وبيان لما تؤول إليه أحوال العصاة من العقوبات العاجلة التي تذكّرهم بالله رب العالمين حتى يرجعوا إلى دينهم ويستقيموا على أمر الله، ولا يؤاخذ سبحانه وبحمده العصاة من المسلمين كما أخذ به الأمم من قبلهم بذنوبهم فيهلكهم كما أهلك الضالين من الأمم السابقة، ولكنه التذكير لهم بين حين وآخر، كما قال سبحانه وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وكما قال عز وجل: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]، وفي آية أخرى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61]، وقال عز وجل: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس: 11]، وقال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف: 58].
كل هذا الإمهال والتأجيل في العقوبات وعدم المؤاخذة الفورية بسبب الذنوب من أجل أن يتوب العباد ويرجعوا إلى ربهم ليغفر لهم سبحانه وبحمده، وهذا من لطفه وحلمه عز وجل ورحمته وعفوه وغفرانه، ولو استقام الناس على الصراط المستقيم لأسقاهم الله وأغاثهم بماء طهور وأنزل عليهم من الخير والبركات ما ينعمون به ومعه في الحياة الدنيا، ويجدون الجزاء الحسن والحياة الكريمة ليس في الدنيا فقط، وإنما في البرزخ وفي الآخرة الحياة الأبدية، قال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 16، 17]، فالاستقامة ولزوم الطاعة لله رب العالمين سبب في نزول البركات من السماء وخروجها من الأرض، والمعاصي والذنوب والآثام والإعراض عن تعاليم الإسلام سبب في منع نزول المطر وبركات السماء والأرض.
وكما كان ذلك في الأمم السابقة عقابًا عاجلاً حتى يرجعوا إلى ربهم فهو أيضًا لهذه الأمة الإسلامية، قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130]، فالمعنى أن الله عز وجل عاقب آل فرعون بالسنين التي هي الجُدُوبُ المتتابعة مع نقص الثمرات لعلهم يتذكرون أعمالهم السيئة، فيتوبوا إلى الله منها ويرجعوا إلى طاعته ويستقيموا على أمره، فيرد لهم سبحانه وبحمده ما كان شاردًا ويصلح لهم ما كان فاسدًا، ويعمر قلوبهم بالتقوى، وينزل لهم الغيث من السماء ويخرج لهم البركات من الأرض كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 66]، وقال عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
والإقلاع عن الذنوب والمعاصي والتوبة والإنابة إلى الله مع الاستغفار واللجوء إلى الله رب العالمين بالدعاء في خشوع وتضرع وانكسار واضطرار من أسباب نزول الغيث من السماء والإمداد بالأموال والبنين وجريان الأنهار والبركة في ذلك.
وكما كان في الأمم السابقة فهو أيضًا في هذه الأمة الإسلامية في الاستجابة السريعة من الله الغني الحميد الفعال لما يريد الذي قال في محكم التنزيل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وكما ورد في القرآن الكريم عن عبد الله ورسوله نوح عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح10-12]، وجاء أيضًا في القرآن الكريم عن نبي الله هود عليه الصلاة والسلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود: 52]، فبهذا يتضح أن كثرة الاستغفار والتوبة من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها من أسباب نزول المطر، وينضم إلى ذلك الإلحاح في الدعاء والاستقامة على منهج القرآن الكريم والسنة المطهرة والخروج من المظالم بأنواعها، سواء ظُلْم الإنسان لنفسه في التقصير في الطاعات وارتكاب المحرمات أو ظُلْمه لغيره بأي أسلوب كان، مع الإخلاص لله رب العالمين والصواب على سنة الرسول محمد حتى يقبل الله الأعمال، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف110]، ومع الالتزام أيضًا بآداب الدعاء وشروطه والابتعاد عن الموانع.
فمن الآداب واللوازم حمدُ الله والثناءُ عليه في أوله، والصلاةُ على الرسول محمد في آخره، والاكتفاءُ بسؤال الله الحاجة في أي دعاء، وعدمُ التعدي وتجاوز الحدود، وما أجمله من ربط قرآني في آيات متتالية تشير إلى النهي عن الاعتداء في الدعاء وأن رحمة الله قريب من المحسنين وعباد الله المتقين، ومن رحمته جل جلاله هذا المطر والغيث الذي ينزل على العباد، ولنستمع إلى هذه الآيات الكريمة من كلام رب العالمين، قال الله جل جلاله وتعالى سلطانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 55-57].
فعلينا أن نتدبر هذه الآيات الثلاث كلمة كلمة، والآية التي قبلها أيضًا والتي بعدها لنرتبط بكلام ربنا سبحانه وبحمده ونعيش معه لنجد لذة العبادة والمناجاة وحلاوة الإيمان التي يفقدها كثير من المنتسبين للإسلام.
|