أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى كما أمركم بتقواه، وراقبوه في السر والعلن، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيّها المسلمون، تفكّروا في هذه الليالي والأيام، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، حتى تنتهوا إلى آخر أسفاركم، وكل يوم يمرّ بكم فإنما يباعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة. فطوبى لعبدٍ اغتَنَمها بما يقرّبه إلى مولاه، وطوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنّب فعل السيئات، وطوبى لعبد اتّعظ بما فيها من تقلّبات الأمور والأحوال، قال تعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور: 44]. فكم سمعنا من حي داهمه الموت! وكم سمعنا عن غني هجم عليه الفقر! وكم سمعنا عن صحيح معافى باغته المرض! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعظ النبيّ رجلا فقال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). فيا شباب الإسلام، إن الشباب قوّة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة، وفترت العزيمة، فاحفظوا جوارِحَكم وقتَ الشباب تحفظ لكم عند الكبر. وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحطّ نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال. أسأل الله أن يحفظنا بحفظه، وأن يمنّ علينا بالتوبة النصوحة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله، ألم تروا إلى هذه الشمس كلّ يوم تطلع من مشرقها وتغرب من مغربها، وإن في ذلك أعظم الاعتبار، فإن طلوعها ثمّ غيابها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي طلوع ثم غياب وزوال. ألم تروا إلى هذه الشهور تهلّ فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال، ثم تنمو رويدا رويدا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموّها أخذت بالنقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان سواء بسواء، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدّد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمرّ به الأيام سراعا، فينصرم العام كلَمح البصر فإذا هو في آخره، وهكذا عُمر الإنسان يتطلّع متى يكبر وينمو ويكون له شأن في الحياة، فما يلبث إلا وهو في آخر عمره كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19].
أيها المسلمون، إنكم في هذه الأيام تودّعون عاما قد انصرمت أيامه وانقضت لياليه، فهو شاهد لكم أو عليكم، فلنقف ـ عباد الله ـ وقفة صادقة ونحاسب أنفسنا قبل أن تحاسب، فمن كان مسيئا فيما مضى فعليه الإنابة والإحسان فيما بقي، فباب التوبة مفتوح، وربنا غفور رحيم، وفوق ذلك يفرح بتوبة عبده وهو الغني الحميد. ومن تفكر في أحوالنا اليوم وجد أن كثيرا منّا لاهٍ غافل، وكأنهم يعيشون أبدًا ولا يموتون، وكأنهم وإن ماتوا لا يحاسبون.
روي عن عثمان رضي الله عنه أنه إذا وقف على شفير القبر بكى حتى تبتلّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وإذا ذكرت القبر بكيت! قال رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله يقول: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه)).
فيا من أسرفت على نفسك في المعاصي وما تركت بابًا من أبواب العصيان إلا طرقته، إلى متى والأعوام شاهدة عليك؟! إلى متى تبقى على هذه الحال؟! ألم يأن الأوان إلى أن ترجع إلى ربك وتتوب إليه لعلّه أن يقبلك ويبدّل سيئاتك إلى حسنات إنه جواد كريم؟!
عباد الله، ومن كان فيما مضى محسنا فليحمد الله على ذلك، وليعلم أنه مطلوب منه الكثير في حقّ الله تعالى وفي حقّ الناس، فعليهم النصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم.
فيا من كنت من أهل الاستقامة والطاعة، احذر كلَّ الحذر من الغرور والكبرياء، فإن القلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء، والفتن عظمت في هذا الزمن، فتمسكوا بكتاب الله، وتعلموا سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، ووقروها، وارفعوا قدرها وشأنها، وانشروها بين إخوانكم.
عباد الله، في الحديث عن النبي أنه قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن جسمه: فيم أبلاه؟ وعن عمره: فيم أفناه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه: ما عمل به؟)) وإن كثيرا من الناس اليوم قد تلاعب بوقته وضيّعه في الشهوات والغفلات وإضاعة الصلوات؛ يسهرون معظم الليل ثم إذا جاء وقت السحر والنزول الإلهي وقرب وقت صلاة الفجر ناموا بعد سهرهم الآثم، وختموه بترك صلاة الفجر، ولا يزال هذا صنيعهم صيفا وشتاء، لا يتوبون ولا هم يذكرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أين هؤلاء من الذين قال الله فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة: 16]؟! وأين هم من الذين قال الله تعالى عنهم: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17، 18]؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. القول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|