أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بوصية الله لكم ولمن كان قبلكم؛ تقوى الله جل جلاله، فهي وصيته لخلقه الأولين والآخرين، يقول سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ [النساء: 131]. فاتقوا الله يا عباد الله، اجعلوا بينكم وبين عذاب ربكم وقاية؛ بفعل أوامره والبعد عما نهى عنه، فهو سبحانه القائل: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من عباده المتقين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
أيها الإخوة، من النعم التي ينعم بها الرب جل جلاله على عباده ما أنعم به علينا في هذه الأيام من نعمة المطر، فإنزال المطر نعمة من أعظم وأجل نعم الله عز وجل، كيف لا وقد أشاد الله بها في كتابه وذكرها في سياق الامتنان على عباده؟! اسمعوا ما قال جل جلاله عن هذه النعمة، قال: يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأرْضَ فِرَاشًا وَٱلسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21، 22].
ففي هذه الآيات يأمر جل جلاله خلقه من الأنس والجن بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويذكرهم بأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي أوجدهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مهدا كالفراش، وجعل لهم السماء بناء، ثم ذكر هذه نعمة نعمة إنزال المطر فقال: وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء. فيا لها من نعمة عظيمة ومنة كريمة!
ومما يدل على عظم قدر هذه النعمة أن الله عز وجل سماها بالغيث، وجعلها مظهرا من مظاهر رحمته، يقول سبحانه: وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ ٱلْحَمِيدُ [الشورى: 28]، وفي سورة الأنبياء يقول: أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـٰهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]. يقول ابن عباس : (كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات).
أيها الإخوة المؤمنون، ومما يدل على عظم نعمة المطر الأوصاف التي ذكر الله في كتابه، فأحيانا يصف الله المطر بالبركة، وأحيانا يصفه بالطهر، وأحيانا بأنه سبب للحياة، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة، يقول سبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء مُّبَـٰرَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ [ق: 9]، ويقول: وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُورًا [الفرقان: 48]، ويقول: وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاء مَآء فَأَحْيَا بِهِ ٱلأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل: 65]، وغير ذلك من الآيات. فالبركة والطهر وإحياء الأرض في هذا المطر يا عباد الله.
أيها الإخوة المؤمنون، إننا ـ والله ـ بحاجة لشكر الله عز وجل في كل وقت وفي كل حين، وعلى كل نعمة ينعم بها الله جل جلاله، وخاصة في هذه الأيام، فمن واجب الله علينا أن نشكره، فقد سقى البلاد والعباد، وأنزل هذا الماء الذي جعله سبب حياتنا، فمنه نشرب، ومنه نسقي حرثنا وأشجارنا، منه ـ أيها الإخوة ـ وبسببه ينمو الزرع ويدر الضرع بإذن الله تعالى.
أيها الإخوة، إننا إذا لم نشكر الله على نعمة المطر فإننا لن ننتفع منه، اسمعوها صريحة: إننا إذا لم نشكر الله على نعمة المطر فإننا لن ننتفع منه، بل سوف يجعله الله أجاجا غير صالح للاستعمال، يقول جل جلاله: أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، ومعنى أجاجا أي: مالحا لا ينتفع به.
إن الله عز وجل ـ والذي نفسي بيده ـ قادر أن يجعله أجاجا، قادر أن يجعله مالحا، لا ينبت زرعا، ولا يسقي إنسانا، ولا ينتفع به حيوان ولا غيره. يستطيع الله أن يجعل هذا الماء بعيدا، لا أحد يستطيع الوصول إليه، قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك: 30].
فلنشكر الله يا عباد الله، نشكره على هذه النعمة التي خصنا بها وأنزلها رحمة بنا، وليكن شكرنا شكرا حقيقيا، نشكره بألسنتنا، ونشكره بأعمالنا، نعمل شكرا له سبحانه، أليس هو القائل: ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ [سبأ: 13]؟! ولنحذر من كفران النعم، فإن النعم إذا شكرت زادت ودامت ونفع الله بها، وأما إذا كفرت فإنها تزول وتنتهي، نسأل الله السلامة.
فالله الله يا عباد الله، اجعلوا ألسنتكم تلهج بشكر الله، وجوارحكم تعمل بطاعة الله شكرا لله. أسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه سميع مجيب.
اللهم أيقظنا من رقدة الغافلين، وأغثنا بالإيمان واليقين، واجعلنا من عبادك الصالحين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|