أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، دلائل وحدانيّة الله وآياتُ قدرتِه كثيرة، لا تُعدّ ولا تحصَى، وشواهدُ عظَمَته لا تحدُّ ولا تستقصى؛ في الأنفس والأولاد، في الخلق والإيجاد، في الإعداد والإمداد، في الكون والعباد، في الحياة والبلاد، في العدد والعدّة والعتاد، في السماء والأرض والجبال والبحار والسهول الوهاد، في الماء والأنعام والطير والنبات والجماد، أإلهٌ مع الله؟! لا إله إلا الله.
فوا عجبًا كيف يُعصى الإله أم كيف يَجحده الجاحدُ
ولله في كـل تـحريـكةٍ وتسكيـنةٍ أبـدًا شاهدُ
وفِي كل شـيء له آيـة تدلّ علـى أنّـه واحدُ
لا إله إلا الله، ولكنَّ القلوبَ عن آيات الله غافلة، والنّفوسَ عن شواهدِ قدرتِه لاهيَةٌ، والعقولَ عن دلائل عظمته شارِدة، إلاّ من رحم الله، فأين المتفكِّرون؟! وأين المتأمِّلون؟! أين أولو الألباب؟! وأين أهل البصائرِ واللُّباب عن التفكير في عظمة ربِّ الأرباب وقدرةِ مسبِّب الأسباب وصُنع منشئ السحاب وخالق الناس من تراب؟! ليقودَهم ذلك إلى توحيده وإخلاص الدّينِ له وإفراده بالعبادةِ دون سِواه.
إخوة الإسلام، نِعمةٌ من نِعَم الله، وآيةٌ من آياته، لا غنَى للنّاس عنها، هي مادّةُ حياتهم وعُنصُر نمائِهم وسَبَب بقائهم، منها يشرَبون ويسقون، ويحرثون ويزرَعون، ويرتَوُون ويأكلون، تلكم هِي نعمة الماء والمطَر وآيةُ الغَيث والقَطر، أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70].
إخوة الإيمان، الماء أصلُ النماءِ الفائقُ على الهواء والغِذاء والكساء والدّواء، هو عنصر الحياةِ وسبَب البقاء، من الّذي أنشأه من عناصرِه إلا الله؟! ومن الذي أنزَله من سحائبه إلا الله؟! وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]، وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُورًا لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـٰمًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا [الفرقان: 48-50].
معاشر المسلمين المستسقين، الغيث نعمةٌ عظمَى ومنّة كبرى، رسولُ الرحمات وبشائر الخيرات وروح الأفراد والمجتمعات وبهجة القلوب وفرحةُ الشعوب، مع الماء الخُضرة والندى والطلُّ والرِّوَى، إذا عُدم زحفت جيوش القحط ودلفت كتائب المجاعة، فتذوي الثمار وتموت الأشجار، فإذا تدفّق الماء تفتّق النماء والعطاء والهناء والصفاء، فتحيا الحقول والمزارع وتميس الحدائق وتُهمهِم الأنهار والجداول وتُزهر الخمائل وتتمايل السنابل.
فهو حيث استدار وقفُ لجينٍ وهو حيث استطار سيفٌ يماني
شريان الحياة النابضُ ورواؤها المتدفّق، أغلى مفقود وأرخص موجود، سرّ البقاء والوجود، نعمةٌ من الله جليلة وهبة م المولى جميلة، فيا له من خلق عجيب ونبأ غريب، جميل المحيَّا بهيّ الطلعة، سبحان من سوّاه، سبحان من أجراه، سبحان من أنزل المياه وروّى بها الأجساد والأفواه.
هذا الذي أنزل سيلاً في البلد فكيف لو صبَّ جبالا من برد
أنزلـه رفقًـا بنـا قطَّـارًا وبـعضـه سخّـره أنهـارًا
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان: 50].
أمّةَ الإسلام، إنّه لا يَقدر هذه النعمةَ قدرَها إلاّ من حُرِمها، تأمَّلوا في أحوالِ أهل الفَقر والفاقةِ التي تغلب على حياة مَن ابتُلوا بالجدْبِ والقَحطِ والجَفافِ والمجاعَة، سائِلوا أهلَ المزارِع والمواشي: في أيّ حالةٍ من الضرّ يعيشون لقلّةِ الأمطار وغورِ المياه؟! وهي سبَبُ خَصبِ مزارِعِهم وحياةِ بهائمهم. أرأيتم يا مَن تَنعمون بوَفرةِ المياه، ماذا لو حبِسَ الماء عَنكم ومنِعتم إيّاه؟! هل تصلُح لَكم حال؟! وهل يَقرّ لكم قَرارٌ؟! وهل تدوم لكم حياةٌ؟! قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك: 30]، إنّه لا منجَأ ولا ملجأ من الله إلا إليه.
ومِن حِكمته تبارك وتعالى أن لا يُديمَ عبادهُ على حالةٍ وَاحدَة، بل يبتليهم بالسّرّاء والضّرّاء، ويتعاهَدُهم بالشّدّة والرّخاء، ويمتحنهم خَيرًا وشرًّا، نِعَمًا ونقمًا، محنًا ومنحًا، وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
ومِن ابتلاءِ الله لعبادِه حَبسُ القطرِ عنهم، أو تأخيرُه عَليهم، أو نزع بركتِه مِنهم، مع ما للمَطَر من المنافع العظيمة للناس والبَهائم والزروعِ والثمار، وما في تأخيرِه من المضارّ الجسيمةِ عَلَيهم.
معاشرَ المؤمنين، إنّ للغيثِ أسبابًا جالبة وأخرَى مانعة، هل ساءَلنا أنفسَنا ونحن في مواسِمِ الغَيث: هل أخذنَا بأسبابِ نزوله، أم قد نكون نحن بأفعالِنا سببًا في منعه؟! تعالَوا بنا نعرض شيئًا من أحوالنا، علَّها تكون ذكرَى نافعة وسببًا في تقويم أوضاعنا على منهجِ الكتاب والسنّة؛ لنحظَى برِزقِ الله الوافر الذي لا يُنال إلاّ بمرضاتِه؛ إذِ الغيثُ جِماعُ الرّزق، قال تعالى: وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22]، والمَطر أصلُ البركات، قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
فيا عبادَ الله، لنحاسِب أنفسَنا؛ ألم نقصِّر في تحقيقِ الإيمان والتّقوى؟! ألم تتسَلَّل إلى بعضِ أهل الإسلامِ لوثاتٌ عقدية ومظاهر شركيّة وأخرى بدعيّة؟! ما ميزانُ الصلاةِ وهي ثاني أركان الإسلام والفارقُ بين الكفر والإيمان؟! لقد خفَّ مقدارها، وطاشَ ميزانها عند كثيرٍ من الناس إلاّ مَن رحم الله، وإذا سألت عن الزكاة وإخراجِها هالك بخلُ بعض الناس وتقصيرهم في أدائها؛ مما نزَع البركةَ من الأموال، وكانَ سببًا كبيرًا في منعِ القطرِ من السماء، أخرج البيهقيّ والحاكم وصحَّحه من حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّ رسول الله قال: ((لم ينقص قومٌ المكيال والميزانَ إلا أخِذوا بالسنين وشدّة المؤونة وجَورِ السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلاّ منِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطروا)).
لقد ظهرتِ المنكراتُ وعمَّت المحرَّمات في كثير من المجتمعات، فلم يتمعَّر منها وجهٌ ولم يشمئزّ منها قلب إلاّ من عصم الله؛ قتلٌ وزِنا، ظلمٌ وشرك وربا، خمورٌ ومسكِرات، مجونٌ ومخدّرات، وفي مجال المعاملات غشٌّ وتزوير وبخسٌ ومماطَلات ورَشاوَى، في انتشارٍ رهيب للمَكاسِب المحرمة والمعاملات المشبوهة.
وعلى الصعيدِ الاجتماعيّ هناك مشكلات أسريّة معقَّدة وعلاقات اجتماعيّة مفكَّكة، ساد بعضَ القلوب حسدٌ وبَغضاء وغِلّ وحِقد وضَغينة وشحناء، وقل مثلَ ذلك في مظاهرِ التبرّج والسفور والاختلاط، وما أفرَزته موجاتُ التغريب من مساوئَ في النساءِ والشباب، مما يذكِي الجريمة ويثير الفتنة ويشحَذ الغريزة من مظاهر محرّمة وملاهٍ معلَنَة وصوَر ماجنة وأفلام خليعة، وحدّث ولا كرامة عن عفن الفضائيات وبؤَر المتديات في شبكات المعلومات، حتى ضعُفت الغيرةُ في النّفوس، وقلَّ التآمر بالمعروف والتّناهي عن المنكر، مع أنّه قِوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيريّةَ على العالمين، وحصَل القصور في مجال التربية والدّعوة والإصلاح والتعليم والإعلام، مع سَيلٍ من مظاهر التحلّل والإباحيّة والانفتاح واللاَّمُنضبِط. فأين الغيرةُ الإيمانيّة؟! وأين الحميّة الإسلاميّة؟! فالله المستعان عباد الله، وإلى الله المشتكَى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
إنَّ ذنوبَنا كثيرة ومعاصيَنا عظيمة، وإنّ شؤمَ المعاصي لجسيمٌ وخَطير، يقول ابن القيّم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرةِ شرٌّ وبلاء إلا سبَبه الذنوب والمعاصي؟!"، إنها تَقضّ المضاجع وتدَع الدّيارَ بَلاقع، يقول أميرُ المؤمِنين عليّ رضي الله عنه: (ما نَزَل بلاءٌ إلا بذَنب، ولا رُفع إلا بتوبة)، ويقول مجاهد رحمه الله: "إن البهائم لتلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدّتِ السنة وأمسك المطر؛ تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانُها
إذا كنت في نعمة فارعَها فإنّ المعاصي تزيل النِّعَم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإلـه سريعُ النِّقَم
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنَّ ما عند الله لا يُستَنزَل إلاّ بالتوبة النصوح. إنّ الذنوبَ ما حلَّت في ديارٍ إلا أهلَكتها، ولا في قلوبٍ إلا أفسدتها، ولا في مجتمعاتٍ إلا دمّرتها. لا بدّ من تعزيزِ جانب الحِسبة وحِراسة العقيدة والفضيلة وسَدّ الثغرات في قنواتِ التّعليم ووسائل الإعلام والاهتمام بقضايا التربية والأسرة والمرأة، وأن تُحسِن الأمّة من شأنها في مِرآة الشريعة ما شانَها.
أيّها الأحبّة في اللهِ، إنَّ تشخيصَ الدّاءِ في هذهِ القضيّة يحمِل في طيّاته أسبابًا كثيرة، منها غفلة العِباد وقَسوَة قلوبهم وضَعف إيمانهم وانتِشار الذنوبِ والمعاصي بَينهم، لا سيّما منعُ الزكاة ونقص المكاييل والموازين والتّقصيرُ في الدّعاء والضّراعة والإعراض عن التوبة والتسويفُ فيها وإغفال الاستغفار الذي هو السّبَب العَظيم في استنزالِ المطر من السماء، يقول تعالى عن نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، ويقول سبحانه عن هودٍ عليه السلام: وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ [هود: 52].
نَستغفِر الله، نَستغفِر الله، نستغفر اللهَ، نستغفر الله الذي لا إلهَ إلاّ هو الحيّ القيّوم ونتوب إليه.
استسقى عمر رضي الله عنه فلم يزِد على الاستغفارِ، فقيل له في ذلك فقال: (لقد طلبتُ الغيث بمجاديحِ السماء التي يُستَنزَل بها المطر).
فالاستغفار ـ يا عبادَ الله ـ هو الدواءُ الناجِع في حصولِ الغيثِ النافع. لا بدَّ في الاستغفارِ أن يكون صادِقًا عمليًّا، فقد قال بعض السلف: "استغفارُنا يحتاج إلى استغفار".
فلنتَّقِ الله يا عبادَ الله، ولنَعلَم أنّه ليس طلبُ الغيث بمجرَّدِ القلوب الغافِلة والعقول اللاهية، وإنما يتطلَّب تجديدَ العهد مع الله وصِدقَ العمل بشريعةِ الله وفَتحَ صفحةٍ جديدة من حياةِ الاستقامة وإصلاحًا شامِلاً في كلِّ مرافِق الحياة، وحاجةُ الأمّةِ إلى الاستغاثةِ العمليّة لا تقلُّ أهمّيةً عن الاستغاثةِ القوليّة، ومع هذا كلِّه ففضل الله واسع، ورحمتُه وسِعت كلَّ شيء، وعفوه عمَّ كلَّ التائبين، فما ضاقَ أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجًا، ولا عظُم خَطب إلا جعَل الله معه فرجًا، فمنه يكون الخوف وفيه يكون الرّجا، فقد فتح بابه للسائلين، وأظهر غِناه للطالبين، ها هو جلَّ وعلا ينادي عبادَه للتّوبةِ والإنابة: قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [الزمر: 53].
وإنَّ مواهبَ ربّنا لجليلة وعطاياه لجزيلة، بابُه مفتوح، وعطاؤه ممنوحٌ، وفَضله للرّاغبين يغدو ويروح، فاشكروه على ما أعطَى، وارجِعوا عن الأخطا، جدِّدوا التوبةَ من ذنوبكم، وأبشِروا وأمِّلوا، وأحسِنوا الظّنَّ بربِّكم، وتسامحوا، وتراحموا، ولتصفُ قلوبكم، بروا الوالدين، وصِلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، ومدّوا يدَ العون للمحاويج والفقراء والأرامل والمساكين واليتامى والثكالى والأيامى، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 19]، ولا تقنَطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من رَوح الله، وادعوا الله وأنتم موقِنون بالإجابةِ. ضَعوا عن المَدِينِين، يَسِّروا على المعسِرين.
وإني لأدعو الله حتى أرَى بجميل الظنّ ما الله صانع
فمتى علِم الله صدقَكم وتوبتكم وإخلاصكم وتضرّعكم أغاثكم وجلب الأرزاقَ إليكم بمنِّه وكَرَمه.
أيّها المسلمون، يا مَن خَرَجتم تَستَغيثونَ، هنيئًا لكم اجتماعُكم هذا، لقد أجَبتم داعيَ الله، وأحيَيتهم سنّةَ رسول الله ، فلا حرمكم الله فضله وثوابه، وحقَّق آمالَكم، واستجاب دعاءَكم، وإنه لمِن الحرمان العظيم تساهلَ بعضِ النّاس في حضورِ دَعوة الخير وإحياءِ سنّة المصطفى .
هذا وإنَّ الارتباطَ بين الغيثِ المعنويِّ والحسّي لعظيم ووثيقٌ، فإذا أجدَبَتِ الأحاسيس والمشاعِر وقحطتِ المعاني الخيِّرة والمثُل العليَا في النّفوسِ والضمائر وساد الناسَ جفافُ الإيمان والسلوك بُلِيَت الأمّة بمنعِ القَطر، وإذا روِيَت بالإيمان والتّقوى سَعدَت في الأُولى والأخرَى، وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
فيا عبادَ الله، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16]. فاتَّقوا الله عباد الله، وتأسّوا بنبيّكم ، فقد خرَج يومَ الاستسقاء متخشِّعًا متذلِّلاً متضرعًا، ملِحًّا على الله في الدعاء، لأن الإلحاحَ في الدعاءِ مِن أعظم الأمور التي يُستنزل بها المطر، قال سبحانه: أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ٱلأرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، ويقول سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، وقد ورد أن الله عزّ وجلّ يستحيي من عبادِه إذا رَفَعوا أيديَهم إليه أن يردَّها صِفرًا أي: خائبتين.
إذا علِمتهم ذلك ـ يا عبادَ الله ـ فارفَعوا قلوبَكم إلى بارئكم وأيديَكم إلى مَولاكم وربّكم، والهجوا بالثناء عليه سبحانه، طالبين الغيثَ منه، راجين لفضلِه، مؤمِّلين لكرمِه، ملحِّين عليه بإغاثةِ القلوب والأرواح وسقي البلادِ والعباد.
لا إلهَ إلا الله غِياث المستغيثين، وراحِم المستضعفين، ومجيب دعوة المضطرين، وجابر كَسر المنكسرين، لا إله إلا الله العظيم الحلِيم، لا إله إلا الله ربّ العرشِ الكريم.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إلهَ إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه.
اللهمّ يا حيّ يا قيوم برحمتِك نستَغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسِنا طَرفَة عَين ولا أقلَّ مِن ذلك، على الله توكَّلنا، ربَّنا لا تجعلنا فِتنة للقومِ الظالمين، ونجِّنا برحمتِك من القومِ الكافِرين، لئن لم يَرحمنا ربّنا ويغفِر لنا لنكوننَّ من الخاسرين، لا إلهَ إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين.
اللّهمّ أنت الله لا إلهَ إلا أنت، أنتَ الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
اللّهمّ أغثنا، اللّهمّ أغثنا، اللّهمّ أغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم يا مغيث أغثنا، اللّهمّ إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهمّ أغث قلوبنا وأرواحنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيرات والأمطار والغيث العميم يا ربَّ العالمين، اللّهمّ لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بسوءِ ما عِندنا.
اللّهمّ إنّا نستغفِرك إنّك كنت غفَّارًا، فأرسِلِ السماء علينا مدرارًا، اللّهمّ أغِثنا غَيثًا مغيثا هَنيئًا مريئًا مريعًا سحًّا غَدقًا طبَقا عامًّا واسعًا مجلِّلا، نافعًا غير ضارّ، عاجلا غير آجلٍ، عاجلا غير رائث، اللّهمّ سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرَق.
اللهم اسق عبادَك وبهائمك، وانشر رحمتَك، وأحيِ بلدك الميّت، اللهم أغثنا غيثًا مباركا، تحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعَله بلاغًا للحاضِرِ والباد.
اللهم أنزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ الضرعَ، وأسقنا من بركاتك، وأنزِل علينا من بركاتِ السماء، وأخرِج لنا من بركات الأرض. اللهم أخرج في أرضنا زينتَها، وأتمم فيها حلَّتها، وأدم عليها بهجتها، يا جواد يا كريم.
اللّهمّ ارفَع الجهدَ والقحط والجفاف عن بلادنا وعن بلاد المسلمين عامّة يا ربّ العالمين، واكشف عنّا مِن الضرّ ما لا يكشفه غيرك. اللّهمّ إنّ بالعباد والبلاد من اللأواءِ والجَهد والضّنك ما لا نشكوه إلاّ إليك.
اللهم ارحَم الشيوخَ الرُّكَّع والبهائم الرّتّع والأطفالَ الرّضّع، اللّهمّ اكشف الضرَّ عن المتضررين، والكرب عن المكروبين، وأسبِغ النّعَم، وادفَع النّقَم عن عبادك المؤمنين.
ربَّنا ظلَمنا أنفسنا، وإن لم تغفِر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.
يا أكرم مسؤول، ويا أعظم مأمول، اللهم قد دَعَوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، ولا تردَّنا خائبين، لا تردَّنا يا مولانا خائبين، ولا من رحمتك محرومين، ولا من بابك مطرودين.
أيها الإخوة المسلمون المستغيثون، لقد كان مِن سنّة نبيّكم بعدما يستغيث ربَّه أن يقلب رداءَه، فاقلبوا أرديَتَكم اقتداءً بسنّة نبيّكم ، وتفاؤلاً أن يقلِبَ الله حالَكم من الشدّة إلى الرخاء ومن القحط إلى الغَيث، وليكونَ ذلك شِعارًا وعَهدًا تأخذونَه على أنفسِكم بتغيير لباسِكم الباطن إلى لباسِ الإيمان والتّقوى بَدلاً من لباس الذنوب والمعاصي.
ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم، وتب علينَا إنّك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
سُبْحَـٰنَ رَبّكَ رَبّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [الصافات: 180-182]، وصلّى الله على النبي المصطفى المختار، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، المهاجرين منهم والأنصار والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلِّم يا ربِّ تسليمًا كثيرًا.
|