الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإذا كان المسلم يملك المال شيئًا فشيئًا كالرواتب الشهرية فلا زكاة على شيء منه حتى يحول عليه الحول، وإذا كان يشق ملاحظة ذلك فيزكي الجميع في الشهر الأول من السنة، الشهر الأول بالنسبة له وادِّخَاره وحساباته وما يملك هو، فقد يكون أول شهر هو رجب، وقد يكون ربيع الأول أو رمضان كل بحسبه، فما تم حوله فقد زُكِّي في وقته، وما لمْ يتمَّ حولُه فقد أُدِّيَتْ زكاتُه، ولا يضرُّ تعجيلُ الزكاة بل هو أربح وأسلم من الاضطراب. وإذا كان للمسلم عقار يسكنه أو سيارة يركبها أو آلات ومكائن لفلاحته وصناعته فلا زكاة عليه في ذلك لقول النبي : ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)).
وإذا كان له عقار يُؤَجِّرُه أو سيارة يكدُّها في الأجرة أو معدات يؤجرها فلا زكاة عليه فيها، وإنما الزكاة فيما يحصل فيها من الأجرة إذا حال عليها الحول وهي في حوزته، والخلاف إنما هو في أجرة العقارات والمعدات وغيرها مما لم يتم عليها الحول وهي في حوزته وعند استلامه لها، أما ما حال عليها الحول فلا خلاف عليها، والأحوط للمسلم أن يخرج الزكاة خروجًا من أي خلاف محتاطًا لنفسه وسوف يخلف الله عليه وينمّي له المال، ((ما نقص مال من صدقة بل تزده)) كما ورد عن رسول الله .
وعلى كل مسلم أن يعلم أن الزكاة لا تبرأ منها الذمة حتى تُوضع في الموضع الذي عيّنه الله عز وجل في كتابه الكريم في الأصناف الثمانية، فلا يجوز للمسلم أن يحابي ويجامل فيها أحدًا ممن لا يستحقها، فهي كفريضة الصلاة أو الصوم أو الحج، كما يُحافظ على الشروط والواجبات والأركان فيها يكون ذلك في الزكاة أيضًا لأنها أحد أركان الإسلام، فلا بُدَّ فيها من الإخلاص لله رب العالمين، فلا يكون فيها رياء ولا سمعة ولا منّة ولا أذى وترفّعٍ على الفقراء والمساكين، بل هي حَقٌّ لهم في ذلك المال، يجب على المسلم أن يدفعها لهم بدون منٍّ ولا أذى خالصة لله من كل شائبة تشوبها لئلا يحبط عمل المسلم بذلك، بل عليه أن يؤديها معتقدًا فرضيتها ووجوبها عليه وأنها حق لأولئك الأصناف في ذلك المال ليس له في ذلك فضل ولا منة.
ولا بد لدافع الزكاة أن يكون متبعًا لهدي رسول الله في دفعه الزكاة لمستحقيها، فالإخلاص والصواب شرطان أساسيان في قبول العمل، وبعدها يسأل الله عز وجل أن يتقبل منه ذلك العمل وأداءه لتلك الزكاة المفروضة عليه في ماله؛ لأن كثيرًا من المسلمين لم يقدروا لتلك الشعيرة الإسلامية العظيمة قدرها، فتراهم يجاملون ويحابون أشخاصًا يدفعون لهم الزكاة وليسوا من أهلها أو يدفعونها لأشخاص رجاء مصلحة من ورائهم بِجَلْبِ نَفْعٍ أو دفع مضرة فيما يظهر مع أن ذلك بيد الله عز وجل وغير ذلك مما هم يعلمونه.
ولا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب، وإذا أعطاها المسلم شخصًا غلب على ظنه أنه مستحق وتبين أنه غير مستحق أجزأت عنه والإثم يكون على ذلك الذي لا يستحقها. ويجوز أن يدفعها المسلم إلى أقاربه الذين لا تجب نفقتهم عليه إن كانوا مستحقين لها، ولا يجوز للشخص أنْ يَقِيَ بها مَالَهُ أو يدفع بها عنه مذمَّةَ الآخرين، ولا يجوز أن يصرفها في شراء مصاحف أو أثاث للمساجد أو في عمارتها أو لإصلاح طرق أو غيرها من المشاريع الخيرية العامة أو الخاصة أو للمساهمة في أعمال تطلبها جهات رسمية أو غير رسمية يظهر للناس منها بأنها تبرع ولكنها مدفوعة من صاحب المال بِنِيَّةِ الزكاة. ولا يجوز دفعها للدعايات والإعلانات التجارية وغيرها وجوائز المسابقات في رمضان أو غيره في الإذاعة أو التلفاز أو الصحافة أو غيرها، فلا يجوز التحايل والإقدام على هذه الطرق الملتوية التي ظاهرها الإحسان والإنفاق والإقدام على فعل الخير بالبذل والعطاء من مال الشخص ولكنها في الحقيقة والنية المُبَيَّتَةِ هي فريضة الزكاة التي أوجبها الله عليه، فلا تبرأ ذمة من يفعل ذلك وسوف يحاسب على فعله كما يحاسب على فريضة الصلاة أداءً أو ضياعًا أو إهمالاً أو تكاسلاً يوم القيامة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].
فالواجب على المسلم أن يدفع زكاة ماله إلى مستحقيها لكونهم من أهلها الذين وضّح وحدّد أصنافَهم ربُّ العزة والجلال في كتابه الكريم، ولو أن الزكاة تؤدى في مجتمع المسلمين حقيقة وتدفع لمستحقيها لأصبح الفقراء أغنياء بإذن الله، ولكن التفريط حاصل ومشاهد الآن في المجتمعات الإسلامية، وزكاة أموال المسلمين بالمليارات وليست بالملايين ولا زال الفقراء والمحتاجون في زيادة وحاجتهم لم تُسدّ، فيا تُرى، ما السبب؟! إن السبب وراء ذلك هو عدم دفع الزكاة لمستحقيها أولاً، فتذهب هنا وهناك، فذلك يحابي فيها ويجامل، وفلان لا يؤديها أو يتحايل على أدائها ولم يعلم حكم الله فيها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تلك الجهود المبعثرة التي نشاهدها في أعمال الخير في البلد الواحد من انتشار عشرات الجمعيات والهيئات المتعددة والأشخاص الذين يتجمع حولهم أصحاب الحاجة والفقر، فلو توحّدت هذه الطاقاتُ المُبَدَّدَةُ والجهود المبعثرة التي قُصد من ورائها الخير وأوصلت إلى الفقراء والمساكين النقود ليتصرفوا فيها ويقضوا حاجاتهم بأنفسهم لكان ذلك أَسْلَمَ وأَفْضَلَ من حرمان كثير من الناس من تلك الخيرات أو حجزهم على أنواع معينة من المأكولات والمطعومات التي قد دخل السُّوسُ بعضَها أو انتهت صلاحيتها أو أُرْغِمَ صاحبُ الحاجة بفرض ذلك عليه وليس على ما يرغب في المأكل والمشرب والملبس، ولا أدلَّ على ذلك مما يُفعل في مشروعات إفطار الصائمين وإن كان لا يدخل في الزكاة ولا يجوز أن يَدفع أحدٌ الزكاةَ إلى هذه المشاريع؛ لأن المستفيدين هم أصحاب المطاعم والمحلات التجارية بأنواعها، والضحية هو ذلك المسمى بالصائم المستفيد من تلك الوجبات المسماة باسمه وحقيقتها المفروضة على الصائمين أكلاً وشربًا قد لا يرغبونها حيث يُفرضُ عليهم اللبن والعصير والسمبوسة والأرز وغيرها مما قد تكون باردة أو غير جيدة في تحضيرها مع ما يصاحبها من جهود وأوقات لو استثمرت في غير ذلك لكان أولى، ولو دُفع لكل صائم مائة وخمسون ريالاً كُلْفة تلك الوجبات واشترى بها الصائم لنفسه ما يريد من أكل وشرب لكان أولى من هذه الجهود المبعثرة والطاقات المهدرة والأموال التي فُرضت على الصائمين واستفاد منها غيرهم.
فهذه إشارة أردت منها توحيد الجهود والسير المحمود في الطريق الصحيح وتنبيه كل مسلم ليعرف عظم الأمانة الملقاة على عاتقه سواء كان قائمًا على مشروع خيري أو صاحب مال يؤدي زكاة ماله، فعليه أن يعرف أين يضعه، وهل وضعه في المكان الصحيح، وهل أداه كما أمر الله عز وجل ورسوله أم لا؛ لأنه سوف يحاسب على هذه الأموال الحلال منها والحرام، وأداء الزكاة من عدمها، وهذه الصناديق التي توضع عند أبواب المساجد هي لِتُلْقِيَ التبرعات من مالك الخاص وليس من الواجب في مالك الذي لا بد أن تؤديه للأصناف الثمانية أو أي واحد منهم، ولو فُرض أنك تريد وضع الزكاة فيها فلا بد من الكتابة على المظروف الذي تضع فيه النقود بأنها من الزكاة وعَدَد تلك النقود؛ لئلا توضع في مشاريع أو أعمال أخرى ليس لها صلة بمصارف الزكاة، وليس كل مشروع خيري تدفع له الزكاة، فليتنبه كل مسلم إلى ذلك حتى تبرأ ذمته من مسؤولية هذه الفريضة العظيمة التي دخلتها هذه الأيام وهذا الزمان عدة عوامل أفقدتها مكانتها العظيمة في الإسلام، وأصبح التهاون بها بين المسلمين الآخذ والمعطي سمة وعلامة بارزة تدل على عدم الاهتمام وقلة المبالاة والخوف من عاقبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة.
ولا يفهم أحد من كلامي هذا غير ما أردته ولا يحمله على غير المحمل الحسن إن كنا نريد الخير لا غير، فما أردت إلا الخير من حيث توحيد الجهود في جهة واحدة في كل بلدة ومدينة والاهتمام بأمر الزكاة والعناية بذلك والتفريق بينها وبين عموم الصدقات والهبات، قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]، وفي ختم هذه الآية بهذين الاسمين العظيمين تنبيه من الله جل جلاله لعباده على أنه سبحانه وتعالى هو العليم بأحوال عباده ومن يستحق منهم للصدقة ومن لا يستحق، وهو الحكيم في شرعه وقدره فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وإن خفي على بعض الناس أسرار حكمته ليطمئن العباد لشرعه ويسلّموا لحكمه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...
|