أمّا بعد: فيا عِبادَ الله، إنّ في وصلِ البرِّ بالبِرّ وإتباع الخير بالخيرِ والحسَنَة بالحسنة آيةً بيِّنةً على حُسنِ وعيٍ وصِحّة فهمٍ وكمال توفيقٍ، حظِي به المتّقون من عباد الرحمن والصَّفوة من عباد الله والأفذاذِ من أولي الألبابِ، الذين يرونَ في استدامةِ أمدِ الطاعةِ وفي امتداد زمانها نعيمًا لا يعدله في الدنيا نعيمٌ وأملاً باسمًا لا يماثله أملٌ؛ ذلك أنّهم يستيقنون أنّ الطاعةَ ليس لها زمنٌ محدود تنتهي بانتهائه، وأنّ العبادةَ ليس لها أجل معيَّنٌ تنقضي بانقضائه، بل هي حقُّ الله على العباد يعمُرون به الأوقاتَ ويستغرقون فيه الأزمانَ؛ رغبةً في الظفَر بموعود الله لهم الواردِ في قوله عزّ اسمه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ [المرسلات: 41-44]، وتأسّيًا بهدي خير العبادِ صلوات الله وسلامه عليه الذي كان عملُه ديمةً أي: دائمًا لا يختصّ بزمان كما أخبرت بذلك أمّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره، وحدّثت رضي الله عنها أيضًا أنّه قال: ((أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى أَدوَمُها وإن قلَّ)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ لأنّه بدوام القليل ـ كما قال بعض أهل العلم ـ تدوم الطاعةُ والذكرُ والمراقبة والنيّة والإخلاص والإقبالُ على الخالق سبحانه، ويُثمر القليل بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرةً.
ولقد كان شهرُ رمضان ـ يا عباد الله ـ ميدانَ تنافُس الأبرارِ ومجالَ تسابُق الأخيار وعاملَ تهذيبٍ وترويضٍ لنفوسِ أهلِ الإيمان ومدرسةً رائعة للسموّ الروحيّ والكمال النفسيّ والإصلاح الخُلُقيّ، فليس عجبًا إذًا أن يُدعى المؤمنُ إلى الحرصِ على استمرار السّير على طريق رمضان ومواصَلَة الخُطَى على نهجِ الخير الذي سمت به ومسلك الرشدِ الذي ارتقت به النفوسُ في هذا الموسم العظيمِ؛ حفاظًا على هذه المكاسبِ العظيمة الكريمة، وحَذَرًا من النكوص على الأعقاب بالعودة إلى طاعة الشيطان واتِّباع خطواته بعدما ذاقت لذّةَ القرب في طاعة الرحمن والاستقامة على أمره، وهل يصحُّ لمن صام حرًّا بعتقِ الله له من النار هل يصحّ له أن يعودَ طوعًا إلى رقِّ الخطايا وعبودية الأوزار؟!
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعملوا على مرضاةِ ربّكم بالاستدامة على طاعته والاستمرار على عبادته، وحذارِ من التردّي في وهدةِ المعصية بعدما ترقّيتم في مدارجِ الطاعة، وأتبعوا السيّئةَ الحسنةَ كلّما زلّت بكم الأقدام أو طاشتِ الأحلام؛ يمحُ الله بها الخطايا ويرفَع بها الدّرجات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 114، 115].
نَفَعَني الله وإيّاكم بهَديِ كتابِه وبِسُنَّة نَبيِّه ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجَليلَ لي ولَكم ولِسائِر المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغَفورُ الرّحِيمُ.
|