أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيام شهر رمضان بقيةٌ، وأي بقية؟! إنها عشره الأخيرة، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء، في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمّر وجد وشد المئزر، هجر فراشه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان؟!))، يطرق الباب وهو يتلو: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرا: ((أيقظوا صواحب الحجر؛ فرُبّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة))، ألم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه؟!
أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدّموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة. إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق الخذلان.
في هذِه العشرِ المباركة ليلةُ القَدْرِ الَّتِي شرَّفها الله على غيرها، ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشادَ الله بفضلها في كتابة المبين فقال تعالى: إِنَّآ أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 3-5].
وصفَها الله سبحانَه بأنها مباركةٌ لكَثْرةِ خيرِها وبَركتِها وفضلها، فمِن بركتها أنَّ هذا القرآنَ المباركَ أُنْزِلَ فيها، ووصَفَها سبحانَه بأنه يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم، يعني يفصَل من اللوح المحفوظِ إلى الْكَتَبةِ ما هو كائنٌ مِنْ أمرِ الله سبحانَه في تلك السنةِ من الأرزاقِ والآجالِ والخير والشرِّ وغير ذلك من كلِّ أمْرٍ حكيمٍ من أوامِر الله المُحْكَمَةِ المتْقَنَةِ التي ليس فيها خَلَلٌ ولا نقصٌ.
وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
أيها الإخوة الصائمون، في هذه السورةِ الكريمةِ فضائلُ متعددةٌ لليلةِ القدرِ:
الفضيلةُ الأولى: أن الله أنزلَ فيها القرآنَ الَّذِي بهِ هدايةُ البشرِ وسعادتُهم في الدُّنَيا والآخرِةِ.
الفضيلةُ الثانيةُ: ما يدُل عليه الاستفهامُ من التفخيم والتعظيم في قولِه: وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
الفضيلةُ الثالثةُ: أنَّها خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ.
الفضيلةُ الرابعةُ: أنَّ الملائكةَ تتنزلُ فيها وهُمْ لا ينزلونَ إلاَّ بالخيرِ والبركةِ والرحمةِ.
الفضيلةُ الخامسةُ: أنها سَلامٌ لكثرةِ السلامةِ فيها من العقابِ والعذابِ بما يقوم به العبدُ فيها من طاعةِ الله عزَّ وجلَّ.
الفضيلة السادسةُ: أنَّ الله أنزلَ في فضلِها سورة كاملةً تُتْلَى إلى يومِ القيامةِ.
ومن فضائل ليلةِ القدرِ ما ثبتَ في الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ قالَ: ((من قَامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه))، فقوله: ((إيمانًا واحتسابًا)) يعني: إيمانًا بالله وبما أعدَّ اللهُ من الثوابِ للقائمينَ فيهَا، واحتسابًا للأجرِ وطلب الثواب.
وليلةُ القدرِ في رمضانَ؛ لأنَّ الله أنزلَ القرآنَ فيهَا، وقد أخْبَرَ أنَّ إنزالَه في شهرِ رمضانَ، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185].
وليلةُ القَدْر في العشر الأواخر من رمضانَ لقول النبيِّ : ((تَحَرِّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخر من رمضانَ)) متفقٌ عليه. وهي في الأوْتار أقْرب من الأشفاعِ لقولِ النبيِّ : ((تحروا ليلةَ القدرِ في الْوِترِ من العشرِ الأواخر من رمضان)) رواه البخاري.
وهي في السَّبْعِ الأواخرِ أقْرَبٌ، لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّ رجالاً من أصحاب النبيِّ أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام في السبعِ الأواخر فقال النبيُّ : ((أرَى رُؤياكُمْ قد تواطأت ـ يعني: اتفقت ـ في السبعِ الأواخرِ، فمن كانَ مُتَحرِّيَها فَلْيتحَرَّها في السبعِ الأواخرِ)) متفق عليه، ولمسلم عنه أنَّ النبيَّ قال: ((التمِسُوَها في العشر الأواخر ـ يعني: ليلةَ القدْرِ ـ، فإن ضعف أحدُكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبعِ البواقِي)).
وأقربُ أوْتارِ السبعِ الأواخرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ لحديثِ أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: والله، لأعلم أيُّ ليلةٍ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله بقيامِها هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ. رواه مسلم.
ولا تَخْتَصُّ ليلةُ القدرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ، بل تَنتَقلُ فتكونُ في عامٍ ليلةَ سبع وعشرينَ مثلاً، وفي عام آخرَ ليلة خمسٍ وعشرينَ، تبعًا لمشيئةِ الله وحكمتِه، ويدُلُّ على ذلك قولُه : ((الُتمِسُوها في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقَى، في خامسةٍ تبقَى)) رواه البخاري. قال في فتح الباري: "أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشرِ الأخيرِ، وأنها تَنْتَقِلُ" اهـ.
وقد أخفَى الله سبحَانه عِلْمَها على العبادِ رحمةً بهم؛ ليَكْثُر عملُهم في طلبها في تلك الليالِي الفاضلةِ بالصلاةِ والذكرِ والدعاءِ، فيزدادُوا قربًا من الله وثوابًا، وأخفاها اختبارًا لهم أيضًا ليتبينَ بذلك مَنْ كانَ جادًّا في طلبها حريصًا عليها مِمَّنْ كانَ كسلانَ متهاونًا، فإنَّ مَنْ حرصَ على شيءٍ جدَّ في طلبِه وهانَ عليه التعبُ في سبيلِ الوصولِ إليهِ والظَفر به، وربَّما يظهرُ اللهُ عِلْمَهَا لبعضِ الْعبَادِ بأماراتٍ وعلاماتٍ يرَاهَا كما رأى النَبيُّ علامتَها أنه يسجُدُ في صبيحتِها في ماءٍ وطينٍ، فنزل المطرُ في تلك الليلةِ، فسجد في صلاةِ الصبحِ في ماءٍ وطينٍ.
عباد الله، ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب ويرد الجواب. ليلة ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غدا بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا أودعتموها؟! وبأي الأعمال ودعتموها؟! أتراها ترحل حامدة لصنيعكم أم ذامة تضييعكم؟! هذا أوان السباق فأين المسابقون؟! هذا أوان القيام فأين القائمون؟!
يا رجـال الليـل جدّوا ربّ صـوت لا يـردّ
لا يـقـوم اللـيـل إلا من لـه عـزم وجـدّ
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا اللهَ إنّه كان غفّارًا.
|