أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فأمامنا يوم ثقيل، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَـٰطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [مريم: 68]، فوالذي نفسي بيده، إنه ليوم طويل، شاب من هوله الوليد، وجمع فيه القريب والبعيد، ثم عرضوا على المبدئ المعيد، فهنيئًا لأهل التقوى، ثُمَّ نُنَجّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72]. فاتقوا الله عباد الله، وتأهبوا لذلك اليوم، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18].
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ [الحج: 27، 28]. إنه الحج دعانا إليه الخليل إبراهيم عليه السلام، وجدد هذه الدعوة محمد .
أورد الإمامان ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم آثارًا عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعدد من السلف في تفسير آية الحج المتقدمة أن إبراهيم عليه السلام قال: يا رب، وكيف أبلغ وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام إبراهيم عليه السلام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على جبل أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه.
فيا لله من الجموع التي حجت بيت الله منذ ذلك النداء إلى يومنا هذا! إن إبراهيم عليه السلام قد نادى، أما كيف وصل النداء؟ فربك هو خالق الكون ومدبر أمره، إنه أمر الله: ناد وعلينا البلاغ.
ثم انظر ـ رحمك الله ـ إلى مشهدٍ آخر رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر وهو يصف حجة النبي ، قال جابر: ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء فنظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك. الله أكبر! إنها الجموع الغفيرة تحج مع المصطفى ، لقد حج معه مائة ألف، إنها مكة أم القرى، كم وكم لها من محب.
ثم أعد البصر إلى زماننا، كم يحج بيت الله في كل عام؟! لكن اسمح لي، إن هذا العدد الذي يقدر بالملايين هم جزء يسير إلى ملايين أخرى عبر بقاع العالم تمنّي نفسها بحج بيت الله الحرام. ألم تعلموا ـ أدام الله عليكم نعمه وفضله ـ أن من المسلمين عبر بقاع الأرض أناسًا من الناس يجمعون الدرهم إلى الدرهم والدينار إلى الدينار وكل مُناهم أن تكتحل أعينهم برؤية كعبة المسجد الحرام، حتى إذا جاء الموسم وأذن المؤذن بالحج ولمَّا يكتمل الجمع بعد تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما يبلّغهم بيت الله وكعبة الله مع أنهم معذورون بل مأجورون من الله على نياتهم.
كيف وصل النداء عبر الأعصار والأمصار؟! إنه أمر الله أن ناد وعلينا البلاغ، وإنهم وفد الله يتتابع أفرادًا وجماعات قد يممّت وجوهها شطر بيت الله وعلقت قلوبها بالله. يقول الإمام الصنعاني رحمه الله:
وما زال وفـد الله يقصـد مكـة إلى أن يرى البيت العتيـق وركناه
يطـوف بـه الْجـانِي فيغفر ذنبه ويسقط عنـه جرمـه وخطايـاه
فمولى الموالي للزيـارة قـد دعـا أنقعد عنهـا والمـزور هـو الله؟!
نحجّ لبيت حجـه الرسـل قبلنـا لنشهد نفعًـا فِي الكتاب وعدناه
فيا من أسى يا من عصـى لو رأيتنا وأوزارنـا ترمـى ويرحَمنـا الله
نعم، إنهم وفد الله، وهم الموعودون بكرم الله، روى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم))، وعند الطبراني في الكبير والترمذي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
فبشراكم يا حجيج بيت الله وهنيئًا لكم، بشراكم إجابة الدعوة، وهنيئًا لكم سقوط الذنوب، أما الفقر فقد أوغل في الهروب. إنها الذنوب تغسل فلا يبقى على الجسد بعدها من درن، في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
أما إن فضل الله الواسع لم يقف عند حدّ الدنيا، بل تعداها إلى الآخرة، تأملوا ـ يا رعاكم الله ـ في هذا الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). فيا لكرم الله! جنة عرضها السماوات والأرض تنال بحجة مبرورة، اللهم لا تحرمنا الجنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ [آل عمران: 97].
|