أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فهي الزاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم الآزفة، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
عباد الله، لنقف اليوم موقف محاسبة مع أنفسنا، وقد دخلنا على النصف الأخير من شهر رمضان، شهر الغفران والعتق من النيران.
إذا كان الشهر فيه 720 ساعة فقد مرت بنا حتى الآن من بداية الشهر 375 ساعة، وبقي 345 ساعة، والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا: ماذا استثمرت في ساعاتك الفائتة لأخراك؟ كم ساعة من هذه الساعات راحت وذهبت عبثًا وضياعا؟ وكم ساعة من هذه الساعات كانت في عبادة وطاعة؟ كم ساعة من هذه الساعات جلست فيها مع كتاب الله تتلوه وتتدبره؟ وكم ساعة من هذه الساعات وقفت فيها بين يدي الله تصلي وتركع وتسجد؟ وكم ساعة خلوت فيها مع الله تذكره وتسبحه وتستغفره؟ وكم تصدقت وبررت وزرت رحمك؟ وكم رفعت يديك بالدعاء وبكيت وخشعت؟ وكم غيرت من أخلاقك السيئة واستبدلتها بالأخلاق الفاضلة الحميدة؟ أم أنك ما زلت مسرفا على نفسك في العصيان وفي البعد عن صراط الرحمن، ولا زلت هاجرا للقرآن، تجلس مجالس الغيبة والبهتان مع الأصحاب والأقران، وتضيع الساعات تلو الساعات، ولو أطال الخطيب الخطبة عشر دقائق لرأيته يتململ ويتأفف.
إن هؤلاء لو قيل له: إن هناك حفلا ساهرا في المقهى الفلاني لهرع إليه مهرولا، بل لربما أحيا ليالي رمضان وهو يحتضن الأرجيلي حتى الفجر يؤخر السحور عليها. لماذا تراجع الناس في حضور صلاة العشاء والتراويح بعد أن فتحنا السدة واكتظ المسجد بالمصلين إلا أن مظاهر الاحتفاء بهم لم يطل كثيرا؟! فهل ضمنوا العتق من النار من أول ليلة أو ليلتين ونحن لا ندري، أم أن يقدح رأس الأرجيله أو يلعب دك الشده أولى عنده من قيام رمضان وتلاوة القرآن؟!
الساعات تمر يا عبد الله، فالبدار البدار، وبعد أيام قليلة ستدخل علينا العشر الأواخر من رمضان التي حث النبي على تحري ليلة القدر فيها فقال: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان))، فهل أنت مستعدّ لاستقبال العشر الأواخر وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، أم أصبحت لا تَفرُق معك أتت أم لم تأت؟! بل لربما حسبت نفسك في غنى عن خيراتها وبركاتها! فقد ضمنت منزلتك في الجنة!
اسمع كيف كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يستقبل العشر الأواخر من رمضان: روى البخاري عن عائشة أنها قالت: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. هذا رسول الله يشد مئزره كناية عن التشمير والاجتهاد، ويحيي ليله بالقيام بين يدي الله، ويوقظ أهله، فهو حريص على الخير له ولغيره، فيوقظهم لتشملهم الرحمة والخير الإلهي. هذا رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأين أنت من هذا؟!
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال عنه النبي : ((لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح))، فاسمع ماذا يقول هذا الصحابي الجليل: (لو أن لي قدمًا في الجنة وقدمًا خارجها ما أمنت مكر الله). وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد والمبشر بالجنة ماذا يقول؟ (لو نادى مناد من السماء أن الناس جميعهم في الجنة إلا رجل واحد لخشيت أن أكون أنا). فاستأنفوا ـ أيها الإخوة والأخوات ـ العمل الصالح، وجددوا العزيمة على الرشد، واصبروا على الطاعة فيما بقي من أعماركم.
رحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره، فقال الرجل: عمري ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع، فقال الفضيل: يا أخي، إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومن عرف أنه مسؤول فليعدّ للسؤال جوابًا، فبكى الرجل وقال: يا فضيل، وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
ورضي الله عن هارون الرشيد الذي يوم أن نام على فراش موته قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، وحملوا هارون إلى قبره، هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة، في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إليَّ خراجك ها هنا إن شاء الله، حمل ليرى قبره، ونظر هارون إلى قبره وبكى، ثم التفت إلى أحبابه من حوله وقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 28، 29].
أين المال؟! أين الدولارات؟! أين السيارات؟! أين العمارات؟! أين الأراضي؟! أين السلطان؟! أين الجاه؟! أين الوزارة؟! أين الإمارة؟! أين الجند؟! أين الحرس؟! أين الكرسي الزائل؟! أين المنصب الفاني؟! مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 28-29]. وبكى هارون وارتفع صوته ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16]. أين الفراعنة؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الظالمون؟! أين الطواغيت؟! بل أين فرعون وهامان؟! هل ترك الموت أحدا منهم؟! من الباقي؟! إنه الحي الذي لا يموت، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26-27].
هل تذكرت الموت؟ هل أعددت ليومٍ سترحل فيه عن هذه الدنيا؟ أنسيت يومًا سترحل فيه عن دنياك لتقف بين يدي مولاك. والله، سنبعث ولنسألنّ بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، سنعرض على هذه المحكمة الكبرى التي قال الله عز وجل عنها: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]، فينادى عليك باسمك واسم أبيك: أين فلان بن فلان؟ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20]، إنه يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الآزفة، إنه يَومَ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 2]، إنه يوم الوعيد، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21]، قال الحافظ ابن كثير: قال عثمان في خطبته: (سائق يسوق العبد إلى الله، وشهيد يشهد على أعمال العبد بين يدي مولاه)، ستساق إلى الله جل وعلا، وسينادى عليك يا مسكين ليكلمك ملك الملوك بغير ترجمان.
مثّل وقوفك يـوم الحشر عريانـا مستوحشًـا قلقَ الأحشـاء حيرانـا
والنار تلهب من غيـظ ومن حنقٍ على العصـاة ورب العرش غضبانـا
اقرأ كتابك يـا عبدي علـى مهل فهل ترى فيـه حرفًا غير مـا كانـا
لمـا قـرأت ولم تنكـر قراءتـه أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نـادى الجليـل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنـار عطشانـا
المشركـون غدًا في النـار يلتهبوا والموحـدون بـدار الخلـد سكانـا
وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه ـ أي: عن يمينه ـ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه ـ عن شماله ـ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. اتقوا النار فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج: 19-21].
اللهم حرم جلودنا عن النار، ووجوهنا على النار، وأبصارنا على النار، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فنجنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار، برحمة منك يا عزيز يا غفار.
|