أما بعد: معاشر الصائمين، ومضت الليالي والأيام، فإذا نحن الآن في أفضل ليالي العام، العشرِ المباركة، عشرِ التجلياتِ والنفحات وإقالةِ العثرات واستجابةِ الدعوات وعتقِ الرقاب الموبقات. الله أكبر! إنها بساتين الجنان قد تزينت، إنها نفحات الرحمن قد تنزّلت، فحري بالغافل أن يعاجل، وجدير بالمقصر أن يشمر.
يتفضَّل ربُّنا على عبادِه بنفحَاتِ الخيراتِ ومواسِمِ الطاعات، فيغتنِم الصّالحون نفائِسَها، ويتدارَك الأوّابونَ أواخِرَها. وإنها ـ والله ـ لنعمة كبرى أن تفضّل الله علينا ومد في أعمارنا حتى بلغنا هذه العشر المباركة، وإن من تمام شكر هذه النعمة أن نغتنمها بالأعمال الصالحة، فهل نحن كذلك؟! نشكو إلى الله ضعفًا في نفوسنا وقسوة في قلوبنا الغارقة في بحور الغفلة.
جرت السنون وقـد مضـى العمر والقلب لا شكـرٌ ولا ذكـرُ
والغفـلـةُ الصمـاء شـاهـرةٌ سيفـا بـه يتصـرّم العمـرُ
حتى متـى يـا قلـب تغـرق في لجـج الهـوى إنّ الْهوى بَحرُ
هـا قـد حبـاك اللَّـه مغفـرةً طرقت رحابَك هـذه العشـرُ
عباد الله، ظاهرة مؤسفة يتألم لها المؤمن ويحترق لها قلبه حسرة في مثل هذه الأيام المباركة، ولا يعرف لها سببا وتفسيرا إلا الغفلة التي اشتدت واستحكمت في القلوب. إنها ظاهرة ضعف الإقبال على العبادة والطاعة في العشر الأواخر من رمضان، يظهر هذا الأمر جليًا في عدد المصلين في الأيام الأولى من رمضان، وعددهم في الأيام الأخيرة منه. لا يزال عدد المصلين في صلاة التراويح يقل، وأقل منهم الذين يصلون القيام الآخِر، والمشكلة أن هذا النقص يحدث في أفضل ليالي الشهر، بل وفي ليلة القدر.
سبحان الله! تهجر المساجد وتعمر الأسواق في أعظم ليالي السنة وأفضلها، بل وفي الساعة الشريفة التي ينزل فيها ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ليعطي السائلين ويغفر للمذنبين في الثلث الأخير من الليل. فلا إله إلا الله! كيف انتصر الشيطان على كثير من أبناء أمة محمد ، فأوقعهم أولاً في كثير من المعاصي والذنوب، ثم صرفهم عن الفرصة العظيمة لطلب المغفرة والحصول على العفو الشامل للذنوب؛ بحرمانهم من قيام تلك الليلة التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه؟!
فالله الله أيها المؤمنون، لا تفوتنكم هذه الفرصة العظيمة، فوالله لا يدري أحدنا هل يدركها مرة أخرى أم يكون ساعتها تحت الأرض مرهونا بما قدم لنفسه. وهي ليالٍ معدودة تمر سريعًا، والموفق من وفقه الله لاغتنامها والإقبال على الله فيها.
إن الإقبال على طاعة الله والتقرب إليه مطلوب في كل حال، ولكنه في العشر الأخيرة من رمضان أعظم فضلاً وأكثر أجرًا حيث يقترن فيها الفضل بالفضل، فضل العبادة وفضل الزمان. ولنا في مرشد البشرية خير أسوة، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا دخل العشر شدّ المئزر وأيقظ أهله وأحيا ليله. وفي رواية لمسلم: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها.
يـا أيها الراقد كـم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ من الليـل وساعاته حظًا إذا ما هجع الرُّقَـد
أيها الغافلون الراقدون، اهجروا لذيذ النوم وجحيم الكسل، وانصبوا أقدامكم، وارفعوا هممكم، وادفِنوا فتوركم، وكونوا ممن قال الله فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16]. ولا تنسَوا أن تأمروا بهذا أولادكم وزوجاتكم كما كان هدي الحبيب .
معاشر الصائمين، اطلبوا الليلةَ العظيمة التي لا يحرم خيرها إلا محروم، ليلة العتق والمباهاة، ليلة القرب والمناجاة، ليلة نزول القرآن، ليلة الرحمة والغفران، ليلة هِيَ أمّ الليالي، كثيرةُ البرَكات، عزِيزَة السّاعات، القليلُ منَ العمَلِ فيها كَثير، والكثيرُ منه مضَاعَف، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا، خَلقٌ عَظيم ينزِل من السماءِ لشُهودِ تلك اللّيلة، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، لَيلةُ سلامٍ وبَرَكاتٍ على هذِهِ الأمّة.
قال ابنُ كثير رحمه الله: "يكثُر نزولُ الملائِكَة في هذه الليلةِ لكَثرةِ برَكَتها"، والملائكةُ يَنزلون معَ تنزُّل البَرَكةِ والرّحمة، كما ينزلون عندَ تلاوةِ القرآن ويحيطون بحِلَقِ الذّكر.
ليلةٌ من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة. فيا حسرة من فاتته هذه الليلة في سنواته الماضية! ويا أسفى على من لم يجتهد فيها في الليالي القادمة!
وليلة القدر هي إحدى ليالي العشر بلا شك، وإنما الشك في تحديدها، والصحيح أنها تتنقل بين ليالي العشر، وليالي الوتر آكد، وأرجاها ليلة سبع وعشرين، وبعض الناس يظن أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين دائمًا في كل سنة، وهذا الظن يرده ما جاء في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أنها وقعت في غير هذه الليلة، ففي السنة التي رأى فيها أبو سعيد رسول الله يسجد في الماء والطين كانت ليلة إحدى وعشرين، وفي السنة التي رآه فيها عبد الله بن أنيس كانت ليلة ثلاث وعشرين، وفي السنة التي رأى فيها أبي بن كعب علاماتها من ليلة سبع وعشرين كانت في تلك الليلة، وهكذا.
وقد أخفى الله هذه الليلة في العشر ليجتهد المسلم في العبادة، ومن اجتهد في العشر كلها فقد أدرك ليلة القدر بلا شك، فاغتنموا هذه الليلة المباركة عباد الله، وعظموها بالقيام وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار.
أخي المؤمن، في كلِّ لَيلةٍ ساعةُ إجابَةِ، الأبوابُ فيها تفتَح، والكريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شئتَ فالمعطِي عظيم، وأيقِن بالإجابةِ فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شَكواك فإنّه الرّحمنُ الرّحيم، وارفَع إليه لأواكَ فهوَ السّميع البصير، يقول عليه الصلاةُ والسلام: ((إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة)) رواه مسلم.
ونسَماتُ آخرِ الليلِ مظِنّة إِجابةِ الدّعوات، قيلَ للنبيِّ : أيّ الدعاءِ أسمَع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخِر ودُبر الصّلواتِ المكتوباتِ)) رواه الترمذيّ وصححه الألباني.
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله عما تدعو به في ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول: ((اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني)).
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، إنك على كل شيء قدير.
|