أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانه، فما أَنتم في هذه الدّنيا إلاَّ غَرَضٌ تَنتَضِل فيه المنايا، مع كلِّ جرعَةٍ شَرَقٌ، وفي كلِّ أَكلَةٍ غَصَص، لا تنالون منها نِعمةً إلاّ بِفِراق أخرَى، ولا يحيا لَكم أثرٌ إلاّ ماتَ لَكم أَثَر، ولا يَتَجَدَّد لكم جَديدٌ إلاّ بَعد أن يَبلَى لَكم جَديدٌ، وقَد مَضَت أصولٌ نحنُ فُروعها، فما بَقاءُ فرعٍ بعد ذهابِ أصله؟!
أيّها الناس، إنَّ شهرَكم هذا قد بدأ إدبارُه وآذن بوداعٍ، وإنَّ ما بقِيَ منه فسيمُرّ مثلَ طرفةِ عين أو كَلمحِ بصرٍ أو هو أقرَبُ، وهو عندَ ذَوِي العقولِ كفَيءِ الظلِّ، بينا تراه سابِغًا حتى قَلَص، وزائدًا حتى نَقَصَ، ولا جَرمَ ـ عبادَ الله ـ فإنَّ الشيء يُترقّب زوالُه إذا قيل: تَمَّ، وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ [يس: 39].
ألا فإنَّ ما بقِيَ منَ الشهرِ اليومَ هوَ المضمَارُ، وغَدًا السِّباقُ، والسبقَة الجنةُ، والغايةُ النار، أفلا تائبٌ من خطيئته قبل خِتام شهرِه؟! ألا عاملٌ لنفسه قبل يومِ بُؤسه؟! ألاَ إنّكم في أيام أمَل من ورائه أجَل، فيا وَيحَ طالب الجنّة إذا نام، ويا بُؤسَ الهاربِ من النار إذا غفا، ثم هوَ لا يتخوّف قارعةً حتى تحلَّ بِه، ومَن هذه حالُه فَلَيس هو من عُمَّارِ الشهر في مَراحٍ ولا مَغدَى.
عبادَ الله، إنَّ في هذا الشهرِ أناسًا شَغَلوا أنفسَهم عن ذكرِ الله وطاعَتِه، حتى قَصَروا غايَةَ بِرّهم به في جَعلِه موسمًا حوليًا للموائِد الزّاخرة، وفرصةً سانحَةً للّهو والسَّمَر الممتدَّين إلى بزوغ النهار، فصُبحُهم مثلُ ليلهم، وأجواؤُهم سود، وأجفانهم جمرٌ يُومِض، جعلوا من هذا الشّهرِ محلاًّ للألغاز الرّتيبة والدعاياتِ المضلّلة، أو المواعيد المضروبة لارتقاب ما يستجدّ من أفلام هابطة وروائيات مشبوهة، ترمي بشررٍ كالقَصرِ لإحراقِ ما بقي من أصلِ حشمةٍ وعفاف، أو تديُّنٍ يستَحِقّ التشجيع والإذكاء، وبذلِكَ تخسَر الأمة في كلِّ لحظة مواطنًا صالحًا، يضلّ ضَلالةً يغشّ بها ويخدَع ويسرِق ويحتال، تمتُّعًا بهذا التَّرَف المرئيّ والداء المستشري، ولسانُ حالِ هؤلاء يقول: لقد صُفّدت شياطين رمضان إلاّ شياطينهم، حتى صارُوا بذلك يطلُبون ولا يعطون، ويشتَهون ولا يصبِرون، ويحسنون الجمعَ ولاَ يَعرِفونَ القِسمةَ، إلى أن تحطّمت فيهم روحُ المغالبة والمقاوَمَة، فلا عَجَبَ حينئذٍ إذا لم يجِد هؤلاء بهذا الشّهر المبارك ما يجِده المؤمنون الصادقون.
وفي المقابلِ ـ عبادَ الله ـ فإنَّ لهذا الشهرِ أناسًا غَضّ أبصارَهم ذكرُ المرجِع، وأراقَ دموعَهم خوفُ المحشر، فهم بين شريدٍ هارب من الكسَل والخذلان وخائف مقهور وداعٍ مخلص وثَكلان موجَع.
ألا فاتقوا الله أيّها الصائمون القائمون، وتنفَّسوا قبلَ ضيق الخِناق، وانقادوا قبلَ عُنف السِّيَاق، فيومئذٍ تعرَضون لا تخفَى منكم خافِيَة، ألاَ فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرةِ؟! وما يصنَع بالمال مَن عمّا قليلٍ سيُسلَبُه وتبقى عليه تبعاتُه وحِسابه؟! فاللهَ اللهَ وأنتم سَالمونَ في الصّحّةِ قبلَ السّقم، وفي الفسحةِ قبل الضيق، ويَا لفوز مَن سَعَوا في فكاك رِقابهم من قبل أن تُغلَق رَهائِنُها. ألا إنَّ للهِ عتقاءَ مِنَ النار في رمضانَ، وأمّا هذه الدنيا فَهِي غَرّارةٌ ضرّارة، حائلة زائلة، لا تَعدو أن تكونَ بزخرفها كما قالَ تعالى: كَمَاء أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاء فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرّياحُ [الكهف: 45].
إنّه ما بينَ أَحَدِنا وبين الجنّة أو النار إلاّ الموت أن ينزِل به، وإنَّ غايةً تَنقُصها اللّحظة وتهدِمُها السّاعةُ لجديرةٌ بِقِصَر المدّةِ مهمَا طالت، وإنَّ غائبًا يحدُوه الجديدان اللّيلُ والنهار لحريٌّ بِسُرعةِ الأوبة، فَرحِم الله امرَأً قدّم توبَتَه وغالبَ شهوتَه، فإنَّ أجلَه مَستورٌ عنه، وأَمَله خادعٌ له، والشّيطان موكَلٌ به، يُزيّن له المعصيةَ والتفريط ليركَبَهما، ويمنّيه التوبةَ ليسوّفَها، يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء: 120].
فالبِدارَ البِدار قبل مفاجأةِ الأجَل، فلو أنَّ أحدًا يجِد إلى البقاء نفقًا في الأرض أو سُلّمًا في السماء دون أن يُقضَى عليه بالموت لكان ذلك لِسليمانَ بنِ داودَ عليه السلام الذي سخَّر الله له مُلكَ الجنّ والإنس، وٱلرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَٱلشَّيَـٰطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ [ص: 36-38]، هذا مع نبوَّته وعظيمِ زُلفَتِه، غيرَ أنّه لما استوفى طُعمتَه واستكمَلَ مُدّتَه رماه قَوسُ الفَناء بنِبالِ الموت، وأصبَحَت الديارُ منه خَاليةً، ووَرِثَها قومٌ آخرون. وإنَّ لكم في القرونِ السّالفة لعبرةً، وإلاّ فأينَ العمالقةُ وأبناء العمالقة؟! وأين الفراعِنَة وأبناء الفراعِنَة؟! أين أصحابُ مدائنِ الرّسّ؟! وأين عاد وثمود وإرمُ ذات العماد التي لم يُخلق مثلُها في البلادِ؟!
فيا مؤخِّرًا توبَتَه بمطلِ التَّسويف، لأيّ يومٍ أجّلتَ توبَتَك وأخَّرت أَوبَتَك؟! لقد كنتَ تَقول: إذا صُمتُ تبتُ، وإذا دخَل رمضان أنبتُ، فهذه أيّام رمضان عناقِد تناقصت، لقد كُنتَ في كلِّ يومٍ تَضَع قاعدةَ الإنابةِ لنفسِك، ولكن على شفا جُرُف هار. ويحَك أيّها المقصّر! فلا تقنَع في توبَتِك إلاّ بمكابدةِ حُزنِ يعقوب عن البَين، أو بِعبرةِ داود ومناداةِ أيّوب لربِّه في ظلماتٍ ثلاث: لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء: 87]، أو بصبرِ يوسفَ عن الهوَى، فإن لم تُطِق ذَلكَ فَبِذُلِّ إخوتِه يومَ أن قالوا: إِنَّا كُنَّا خَـٰطِئِينَ [يوسف: 97].
نَعم أيّها المذنبُ المقصِّر، لا تخجَل منَ التوبة، ولا تستَحِ من الإنابة، فلقَد فعلها قبلَك آدم وحوّاءُ حين قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [الأعراف: 23]، وفعَلَها قَبلَك إبراهيمُ حينَ قال: وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ [الشّعراء: 82]، وفَعَلَها موسَى حِينَ قَالَ: رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَٱغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ [القصص: 16]، وقَد قالَ : ((إنَّ أيّوبَ نَبيَّ الله لَبثَ في بلائه ثماني عشرةَ سنَة، فرفَضَه القريب والبعيد إلا رَجلين من إخوتِه، كانا من أخصِّ إخوانِه، كانا يَغدوان إليه ويروحانِ، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَمُ والله، لقد أذنَبَ أيّوب ذنبًا ما أَذنَبَه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاكَ؟ قال: مُنذ ثماني عَشرةَ لم يرحمْه الله فَيكشِف ما به، فلمّا راح إليه لم يصبر الرجلُ حتى ذَكَر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أنَّ الله يعلم أني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله، فأرجِع إلى بَيتي فأكفِّر عَنهما كراهيةَ أن يُذكر الله إلاّ في حقٍّ، ـ قال: ـ وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسَكَت امرأته بيده، فلمّا كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيّوب في مكانِه: ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42]، فاستَبطأَته فبلغته، فأقبل عليها حتى قَد أذهبَ الله ما به منَ البلاء، فهو أحسَن ما كان، فلمّا رَأَته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيتَ نبيَّ الله هذا المبتلى، واللهِ على ذَلك ما رأيتُ أحدًا كان أشبهَ به منك إذ كان صحيحًا، قال: فإني أنَا هو، وكان له أَندران: أندرُ القمح وأندَرُ الشعير، فبَعَث الله سحابتين، فلمّا كانت إحداهما على أندَرِ القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندرِ الشّعير الوَرِق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصحّحه الذهبي.
فلا إله إلا الله، من يمنع المذنب من التَّوبَة؟! ولا إله إلا الله، من يَقنَط من رحمة ربه إلاّ الضالون؟! يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (دعا الله إلى مغفرته من زعم أنَّ عزيرًا ابن الله، من زَعَم أن الله فقير، ومن زعَم أنَّ يدَ الله مغلولة، ومن زعَم أنَّ الله ثالِثُ ثلاثة، يقول لهؤلاء جميعًا: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 74]).
جاءَتِ امرأة إلى النبيِّ فقالت: يا رسولَ الله، إني قد زَنَيتُ فطهِّرني، فردَّها النبي ، فلمّا كان الغد قالت: يا رسولَ الله، لِمَ تردّني؟ فلعَلَّك أن تَرُدّني كما رَدَدتَ مَاعِزًا، فواللهِ إني لَحُبلَى، قال: ((إمّا لا فاذهَبي حتى تلدي))، فلمّا ولدت أتَته بالصبيّ في خِرقة قالت: هذا قد وَلدتُه، قال: ((اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه))، فلمّا فطمته أتَته بالصبيّ في يده كِسرةُ خبزٍ، حِرصًا منها على التّوبةِ وإقامةِ الحدّ، فقالت: هذَا ـ يا رسولَ الله ـ قد فطمتُه وقد أكَلَ الطعام، فدفع الصبيَّ إلى رجلٍ منَ المسلمين، ثمّ أمر بها فحُفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبَلَ خالد بنُ الوليد بحجرٍ فرَمَى رَأسَها، فتنضَّحَ الدّمُ على وجهِ خالدٍ فسبّها، فسمع نبي الله سبَّه إياها فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيدِه لقد تابَت توبةً لو تابها صاحِبُ مَكسٍ لغُفر له))، وصاحِب المكسِ هو الذي يأخذ الضريبةَ من الناس. رواه مسلم. وفي رواية: ((لقد تَابَت توبةً لو قُسِمَت بين سبعين من أهل المدينة وَسِعتهم، وهل وجَدَت شيئًا أفضَل من أن جادت بنفسها لله عزّ وجلّ؟!)).
إنَّ صاحبَ الذنب مهما غفل عن التوبةِ أو تناءى عنه الوصولِ إليها فسيظلّ أسيرَ النفس، قلِقًا لا قرارَ له، متلفّتًا لا يصِل إلى مُبتغاه ما لم يُفتح له بابُ التوبةِ ليطهّرَ نفسَه من كَلكَلِها ويخفّف من أحمالها.
ألا فإنَّ التوبةَ للمرءِ كالماءِ للسّمَك، فما ظنُّكم بالسّمَك إذا فَارقَ الماء؟! إلهنا، إلهَنا:
يـا مَن ترَى مدَّ البعوضِ جناحَهـا في ظلمـةِ اللّيل البهيمِ الأَليَـلِ
ويـرى نيـاطَ عروقهـا في نحرِها والمـخّ في تلكَ العِظام النُحَّـل
امنُن علينـا بِتوبـةٍ تمحـو بِهـا مـا كان منّا في الزّمـانِ الأوَّل
قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفَارًا.
|