أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، فمن خاف الوعيدَ قصُر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، الإيمان خير قائد، والعمل الصالح خير رائد، والإحسان إلى الناس خير عائد، وحسن الخلق خيرٌ زائد. أهل الدنيا في غفلة، تمرّ عليهم الجنائز، والموت فيهم واعد وناجز، وهم يبنون ما لا يسكنون، ويجمعون ما لا يأكلون، فيا سعادةَ من استعان بدنياه على آخرته، ويا فوزَ من شمّر لمرضاة ربّه وعمل على طاعته، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
أيها المسلمون، لقد جاءكم ووفَد عليكم سفيرٌ كريم بين يدَي ضيفٍ حبيب عظيم، فأكرموا سفيرَ حبيبكم، وقوموا بحقّ مبعوث ضيفِكم، إنه شهر شعبان، رسولُ رمضان وسفيره، ومبعوثه إليكم وبريدُه، فمن حقّ رمضان علينا ـ أيها المؤمنون ـ أن نصِل قريبه، وأن نكرمَ أخاه وقرينَه، ويكون ذلك بأمور يسيرةٍ لمن همُّه سعة قبره وضياؤه، وهدفه رحمة ربّه ورضاؤه.
أيها الإخوة الكرام، أوّلُ ما يكون به الإكرام لهذا الشهر الزائر الراحل هو الإكثار من الصيام فيه، فإنّ حبيبنا المصطفى كان يكثر من الصيام في شعبان، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ رسول الله استكمل صيامَ شهر إلاَّ رمضان، وما رأيته أكثرَ صياما منه في شعبان، وقالت رضي الله عنها: كان النبي يصوم شعبانَ كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً.
وقد بيّن نبيّنا سببَ إكثاره من الصيام في هذا الشهر المبارك، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لَم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟! فقال : ((ذاك شهر يغفَل الناس عنه، بين رجَبٍ ورمضان، وهو شهرٌ ترفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحبّ أن يُرفَع عَملي وأنا صائم)).
فذكر سببين اثنين: أولهما أن شهر شعبان شهرٌ يغفل الناس عنه لوقوعه بين شهرين عظيمين: شهرِ رجب وشهرِ رمضان، والأوقات التي يغفل فيها الناس عن العبادة تحسن فيها الطاعات وتعظم فيها الحسنات، فالمؤمن ينبغي له أن يزداد تشميره وحرصُه على الطاعة والعبادة والذكر حين أوقات الغفلة وفي أماكن الغفلة.
والسبب الثاني لإكثار المصطفى من الصيام في شعبان هو أن شعبانَ شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى, فأراد أن يرفع عمله وهو صائم، فلنحرص ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ على الاقتداء بنبينا وحبيبنا محمد .
ثم إن الصيام في شعبان ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ هو كالتّمرين على صيامِ رمضان، لئلا يدخل المسلم في صومِ رمضان على مشقّة وكُلفة، بل يكون قد تمرّن على الصيام واعتادَه، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوةَ الصيام ولذّته، فيدخل المسلم في صيام رمضان برغبَة وقوَّة ونشاط.
عباد الله، الإكرام الثاني الذي نكرم به شهر شعبان هو تطهير أنفسِنا من جميع الذنوب والمعاصي وتنقيةُ بيوتنا من جميع المنكرات والمخالفات، فالتوبةَ التوبةَ يا عباد الله، توبوا إلى لله تعالى توبةً نصوحًا، واصطَلِحوا مع خالقكم، وافتحوا صفحةً جديدة بيضاءَ لما تبقّى من حياتكم، وأَبشِروا بقَبول الله تعالى، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
احرص ـ أخي المسلم ـ على أن لا يدخلَ عليك رمضان إلاّ وأنت طاهِرٌ نقيّ، فإنّ رمضانَ عِطر، ولاَ يُعطَّرُ الثّوبُ حتى يُغسَل، وهذا زمنُ الغسل، فاغتسلوا ـ رحمني الله وإياكم ـ من درَن الذنوب والخطايا، وتوبوا إلى ربكم قبل حلول المنايا، اتّقوا الشركَ فإنه الذنب الذي لا يغفره الله لأصحابه، واتَّقوا الظلم فإنه الديوان الذي وكله الله لعباده، واتقوا الآثام فمن اتقاها فالمغفرة والرحمة أولى به.
يا من للناس عليك حقوقٌ، أدِّ الحقوقَ لأصحابها. أيها العاق لوالديه، ائت مرضاةَ الله من أبوابها، وإن رضا الله تعالى في رضا الوالدين، وسخطه تعالى في سخط الوالدين. أيها الشاب الواقع في المعاصي، اعلم أن الشيطان لن ينتصر عليك بإيقاعك في المعاصي، وإنما ينتصر عليك بتقنيطك وتيئيسك من رحمة أرحم الراحمين وبتسويف التوبة وطول الأمل.
أيها الإخوة الأحبة في الله، الإكرام الثالث الذي نكرم به سفير رمضان هو الإكثار من قراءة القرآن، فقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجدّون في شعبان، ويتهيّئون فيه لرمضان، قال سلمة بن كهيل رحمه الله: كان يقال: شهر شعبان شهرُ القراء، وكان عمرو بن قيس رحمه الله إذا دخل شهرُ شعبان أغلَقَ حانوتَه وتفرَّغ لقراءةِ القرآن.
فلنحرص ـ رحمني الله وإياكم ـ على الإكثار من الطاعات واجتناب السيئات، ولنغتنم فراغنا قبل شغلنا، وصحتنا قبل سقمنا، وحياتنا قبل موتنا، وغنانا قبل فقرنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|