أمّا بعد: فاتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، واعلَمُوا أنّ أَصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشَرَّ الأمور محدَثاتها، وكلّ محدثةٍ بِدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمينَ، فإنّ يدَ الله على الجماعَةِ، ومَن شذَّ عنهم فماتَ فميتتُه جاهليّة.
أيّها المسلِمون، إنّ حياةَ النّاسِ بِعامّة مَليئة بالشّواغِلِ والصّوارفِ المتضخِّمة، والتي تفتقِر من حيث الممارساتُ المتنوِّعة إلى شيءٍ من الفرز والتّرتِيب لقائمة الأولَويّات منها، مَع عدمِ إغفال النّظر حَولَ تَقديم ما هو أنفع على ما هو نافعٌ فحَسب. ثمّ إنّ الضغوطَ النفسيّة والاجتماعيّة الكبيرة الناتجةَ عَن هذا التَّضخّم ربّما ولَّدَت شيئًا من النّهَم واللّهَثِ غيرِ المعتاد تجاهَ البحثِ عمّا يبرِد غلّةَ هذه الرَّواسب المترَاكِمَة ويطفِئ أوارَها[1].
إنّ الحضارةَ العالميّةَ اليومَ قد عُنيت بإشعالِ السِّلاح ورفعِ الصّناعة وعَولمةِ بقاعِ الأرض، تلكمُ الحضارة التي حوَّلت الإنسانَ إلى شِبه آلةٍ تعمَل مُعظمَ النهار ـ إن هي عَمِلت ـ ليكون ساهرًا أو سادرًا[2] أو خَامدًا ليلَه كلَّه، هذه هي الثمرة الحاصلةُ، ليس إلاّ.
إنّ تِلكم الحضارةَ برُمَّتها لم تَكُن كَفيلةً في إيجادِ الإنسانِ العاقِلِ الإنسانِ المدرِك الإنسانِ الموقِن بِقيمةِ وجودِه في هذهِ الحياةِ وحِكمةِ خلقِ الله له، بَل إنَّ ما فيها من آلياتٍ متطوِّرة وتقنيّات كان سببًا بصورةٍ ما في إيجاد شيءٍ من الفراغِ في الحياةِ العامّة، ممّا ولَّد المناداةَ في عالَم الغرب بما يُسمَّى: "عِلم اجتماع الفراغ"، وإن لم يكن هذا الفراغُ فراغَ وقتٍ على أقلّ تقدير فهو فراغُ نفس وفراغ قلبٍ وفراغُ روح وأهدافٍ جادّة ومقاصدَ خاليةٍ من الشّوائب. يأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـٰقِيهِ [الانشقاق: 6]، لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى كَبَدٍ [البلد: 1-4].
إنّ الحضارةَ العالميّة حينَمَا توفِّر للبشَر بالتقدُّم العِلميّ والجهدِ الصناعيّ قوّةَ الإنسان ونشاطَه، وتوفّر له مزيدًا من الوقتِ، ثمّ يكون في نَفسِه وقلبِه وروحِه ذلكَ الفراغ، فهنا تحدُث المشكِلة ويَكمُن الدّاء الذي يجعَل أوقاتَ الفراغ في المجتمعاتِ تعيش اتَّساعًا خطيرًا، حتّى صارَت عبئًا ثقيلاً على حَرَكتِها وأَمنِها الفِكريّ والذّاتيّ، ومَنفذًا لإهدَارِ كثيرٍ مِن المجهودَات والطّاقات المثمِرة.
إنّ غِيابَ الضَّبط والتّحلِيلِ والتّرشيدِ للظّاهرةِ الحضاريّة الجديدةِ المنشِئةِ أوقاتَ الفراغِ ليمثِّل دليلاً بارزًا على وجود شَرخٍ في المشروع الحضارِيّ والعولمَة الحرّة، غَيرَ بعيدٍ أن تؤتَى الأمّة المسلِمة من قِبَله. وإنّ عدمَ وِعيِنَا التامّ بخطورةِ هذا المسلَك تجاهَ أوقاتِ الفراغ وعدَمَ وعيِنا التامّ بالمادّة المناسبَة لشَغل تلك الأوقات في استغلالِ العمليّات التنمويّة والفكريّة والاقتصاديّة البنَّاءة لجديرٌ بأَن يقلِبَ صورَتَه إلى مِعوَل هدمٍ يُضاف إلى غيره من المعاوِل من حيثُ نشعر أو لا نشعر، والتي ما فَتِئ الأجنبيّ عنّا يبثُّها ليلَ نهار لنَسفِ حضارة المسلمين على كافّة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا وَرَسول الله يقول: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)) رواه البخاري[3].
إنّ الإسلامَ دينٌ صَالح للوَاقِع والحَياة، يعامِل الناسَ عَلَى أنّهم بَشَر، لهم أشواقُهُم القلبيّة وحظوظُهم النفسيّة، فهو لم يَفتَرض فيهم أن يكونَ كلُّ كلامِهم ذكرًا وكلّ شرودِهم فكرًا وكلّ تأمّلاتهم عِبرةً وكلّ فراغِهم عِبادة، كلاّ ليس الأمر كذَلك، وإنّما وسَّع الإسلامُ التّعاملَ مَعَ كلّ ما تتطلَّبه الفِطَرُ البشريّة السّليمة من فرحٍ وتَرح وضَحكٍ وبكاء ولهو ومرَح، في حدود ما شرعه الله، محكومًا بآداب الإسلام وحدودِه.
عبادَ الله، إنّ قضيّةَ شَغلِ الفَراغ باللّهو واللّعِب والفَرَح لهيَ قضيّة لها صِبغةٌ واقعيّة على مِضمار الحياة اليوميّة، لا يمكن تجاهلُها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتدُّ الأمر ويزداد عِند وجودِ موجِبات الفراغ كالعُطَل ونحوِها، حتّى أصبَحت عند البَعضِ منهم مصنَّفةً ضِمنَ البرامِج المنظّمة في الحياة اليوميّة العَامّة، وهي غالبًا ما تكون غَوغَائيّة تلقائيّة ارتجاليّة، ينقُصُها الهدفُ السّليم، لا تحكمُها ضوابِطُ زمانيّة ولا مكانيّة، فضلا عن الضّوابِطِ الشرعيّة وما يَحسُن من اللّهو وما يقبُح.
التّرويح والتّرفيه ـ عبادَ الله ـ هو إدخالُ السّرور على النفس والتنفيس عنها وتجديد نشاطِها وزمُّها عن السّآمة والمَلل، وواقعُ النبيّ إبَّانَ حياتِه يؤكِّد أحقِّيةَ هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سِماك بن حَرب: قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله ؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابُه يتنَاشَدون الشعرَ عنده، ويَذكرون أشياء مِن أمر الجاهليّة، ويضحكون فيَبتَسمُ النبيّ معهم إذا ضَحِكوا. رواه مسلم[4]. وأخرج البخاريّ في الأدَبِ المفرد عن أبي سلمَةَ بن عبد الرحمن قال: لم يَكن أصحابُ رسول الله مُنحَرِفين ولا متَماوتِين، وكانوا يتناشدون الأشعارَ في مجالِسِهم ويذكرون أمرَ جاهليَّتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليق[5] عينَيه[6]. وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدَّرداء أنّه قال: (إنّي لأستَجِمّ نفسي بالشيءِ من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ)[7]. وذكر ابن أبي نجيح عن أبيه قال: قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنّي ليُعجبُني أن يكونَ الرّجل في أهلِه مثلَ الصَّبيّ، فإذا بُغِي منه حاجة وُجِد رجلا)[8]. وذكر ابن عبد البرّ عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: (أجمّوا هذه القلوبَ، والتمِسوا لها طَرائفَ الحِكمة، فإنّها تملّ كما تملّ الأبدان)[9].
يقول ابن الجوزِيّ: "ولقد رأيتُ الإنسانَ قد حُمِّل مِنَ التكاليف أمورًا صَعبَة، ومِن أثقَلِ ما حُمّل مداراةُ نفسِه وتكلِيفُها الصبرَ عمَّا تحبّ وعلى ما تَكرَه، فرأيتُ الصّوابَ قطعَ طريق الصّبر بالتسلية والتلطّف للنّفس". وبِمثل هذا تحدّث أبو الوفاء بن عقِيل فقال: "العاقلُ إذا خَلاَ بزَوجاتِه وإمائه لاعَبَ ومازح وهازَلَ، يعطي للزوجة والنَّفسِ حقَّهما، وإن خلا بأطفَالِه خرجَ في صورَةِ طِفلٍ وهَجَر الجِدَّ في بعضِ الوقت".
هَذِه بَعضُ الشّذراتِ ـ عبادَ الله ـ حولَ مَفهومِ اللّهو والتّسلية والتَّرويح، يُؤكَّد من خِلالِه أنّ الإسلامَ قد عُني بهذا الجانبِ حقَّ العناية، غيرَ أنّنا نَوَدّ أن نبيّن هنا وجهَ الهُوّة بَين مفهومِ الإسلام للتّرويح والتّسلية وبين اللّهو والمرَح في عَصرِنا الحاضر، والذي هو بِطبِيعَتِه يحتاج إلى دراساتٍ موسَّعة تَقتنِص الهدفَ للوصول إلى طريقةٍ مثلى للإفادَةِ منها في الإطار المشروع.
فينبغي دراسةُ الأنشطةِ التروِيحيّة الإيجابيّة مِنها والسّلبيّة، والرّبطُ بينها وبين الخلفيّة الشرعيّة والاجتماعيّة للطبقَة الممارِسَة لهذا النشاط، ومدَى الإفادَة مِن الترويح والإبداع في الوُصول إلى ما يقرِّب المصالحَ لا ما يبعِّدها، وإلى ما يُرضي الله لا إلى ما يسخطه، وتحليل الفِعل وردود الفِعل بين معطيات المتطلّبات الشرعيّة والاجتماعيّة وبين متطلّبات الرَّغبات الشخصيّة المشبوهة، وأثرِ تلك المشارَكاتِ في إذكاءِ الطاقاتِ والكفاءات الإنتاجيّة العائدة للأسَر والمجتَمَعات بالنّفع في دِينِهم ودنيَاهم.
إنّ علينا جميعًا كمسلمين أن نَشدَّ عزائمَنا لصيانَتِها ما أَمكنَ من أيِّ ضياعٍ في مَرَحٍ أو لهوٍ غَيرِ سَليم وغير مباحٍ، أو ممّا إثمه أكبرُ من نَفعِه، فلا ينبغي للمسلِمين أن يطلِقوا لأنفسِهم العِنانَ في التّرويح، بحيث يزاحِم آفاقَ العمل الجادّ واليقَظَة المستَهدفة، ولا أن يشغلَ عن الواجباتِ أو تضِيع بسببِ الانغماس فيه الفرائضُ والحقوق والواجبات، إذ لَيست إباحةُ التّرويح وسطَ رُكام الجدّ إلا ضربًا من ضُروب العَون وشَحذِ الهمّة على تحمّل أعباءِ الحقّ والصبر على تكاليفه والإحساس بأنّ ما للجدّ أولى بالتّقديم ممّا للَّهو والتّرويح، وبهذا يُفهَم قول النبيّ لحنظَلةَ بنِ عامر وقد شكا إليه تخلُّلَ بعض أوقاتِه بشيءٍ من الملاطفة للصّبيان والنّساء، فقال له : ((ولكن ساعة وساعة))[10].
أمّا أن يُصبِحَ التّرويح للنَّفس طابعَ الحياة في الغدوِّ والآصالِ والخَلوة والجَلوة وهمًّا أساسًا في الحياة فهو خروجٌ به عَن مقصده وطبيعته واتّجاهٌ بالحياة إلى العَبَث والضّياع، والإنسانُ الجادّ عَلَيه أن يجعلَ من اللّهوِ والترويح له ولمن يعوله وقتًا، ويجعَل للعمل والجدّ أوقاتًا، لا العكس، لاَ سِيّما ونحن نعيش في عَصرٍ استَهوَت معظمُ النّفوسِ فيه كلّ جديد وطريف، حتّى صارت أكثرَ انجذابًا إلى احتِضَان واعتناقِ ما هو وافِدٌ عليها في ميدان اللّهو والمرَح، ولا غروَ في ذلكم عبادَ الله، فإنّ الاسترخاءَ الفكرِيّ وهَشاشةَ الضابِط القِيمِيّ لدى البَعضِ منّا هما أنسبُ الأوقات والأسباب لنَفَاذ الطَّرائف والبَدائع إلى النفوس، وهنا تكمن الخطورةُ ويستفحِل الداء.
فاللهوُ المنفتِح ـ عبادَ الله ـ والذي لا يضبَط بالقيودِ الواعيّة، إنّه ولا شكّ يتهدَّد الأصالةَ الإسلاميّة، لتصبح سَبَهللاً بين خَطَرين:
أحدهما: خطرٌ في المفاهيم، إن كان هناك شيءٌ مِن بعض المسابقات تُدعَى ثقافيّةً، تقوم في الغالِبِ على جمعٍ للتضادِّ الفكريّ، أو تنمية الصراع الثقافي، أو تصديع الثوابتِ المعلوماتيّة لدى المسلمين، بِقطعِ النظر عن التفسير الماديّ للتأريخ والحياةِ، أو على أقلِّ تقدير الإكثار مِن طرحِ ما عِلمُه لا يحتاج إليه الذَّكيّ ولا يستفيد منه البليد.
والخطر الثاني عباد الله: تلك التي تُعَدّ وسائلَ للتَّرويح والتسليةِ عَبرَ القنوات المرئيّة التي تُنتِج مفاهيمَ مضلِّلة، عبرَ طرقٍ جالِبة للثّقافاتِ والشهوات؛ لاسترقاق الفِكر من خلالِ فنونٍ أو أسَاطيرَ أو عروضٍ لما يَفتِن أو للسِّحر والشَّعوذة وما شاكلها.
ونِتاجُ الخطرين ولا شكَّ تمزُّق خطير، متمثِّلٌ في سوءِ عِشرة زوجية، أو تبايُن أفرادِ أسرةٍ إسلامية، ناهيكم عن القتل والخطفِ والانتحار والاغتصاب والتآمر والمخدّرات والمسكِرات، وهلُمّ جرًّا. وما حالُ من يقَع في مثل هذا الترويحِ إلاّ كقول من يقول: وداوني بالتي كانت هي الداء[11]، أو كما يتداوَى شاربُ الخَمرِ بالخمر، فلَرُبَّ لَهوٍ بمرّةٍ واحدة يَقضِي على بُرج مشيَّد من العِلم والتّعليم للنَّفس، ويا لله كم من لذّةِ ساعةٍ واحدة أورثت حزنًا طويلا، وإِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 95، 96].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فِيهِ من الآياتِ والذِّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] الأوار: حرّ النار والشمس.
[3] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] صحيح مسلم: كتاب المساجد (670) بنحوه، واللفظ الذي ذكره الخطيب في خطبته هو لفظ أحمد (5/86، 88).
[5] حماليق العين: هو ما يسوده الكحل من باطن أجفان العين، وهو كناية عن فتح العينين، والنظر الشديد.
[6] الأدب المفرد (81)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في المصنف (5/278)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/540)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (432).
[7] بهجة المجالس (ص115)، وذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص274)، والبغوي في شرح السنة (13/184)، والذهبي في السير (5/421).
[8] أخرجه البيهقي في الشعب (6/292).
[9] جامع بيان العلم (659)، وأخرجه أيضًا الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص68) من طريق النجيب بن السري عن علي، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص424-425).
[10] أخرجه مسلم في كتاب التوبة (2750) عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه.
[11] شطر بيت لأبي نواس، وشطره الأول: دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ، وهو في ديوانه (1/21), وانظر: نهاية الأرب (3/83). |