أمّا بعد: فيَا أيّها الناسُ، اتّقوا الله، فمن اتَّقاه وَقاه وأسعَدَه ولا أشقَاه.
أخِي المسلم، وقتُك هو مزرعَتُك التي تَجني منها الثمارَ، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24].
الوقتُ هو الحياةُ والعُمر الذي هوَ أَغلَى مِن كلّ نفيس، الفلاحُ والسعادةُ في إعمارِ الليالي والأيام بالأعمال الصالحة والطّاعات المتنوّعة، والشقاءُ والخسارةُ في تضييعِ الأوقاتِ وإهمالِ الواجباتِ وإِهدارِ الفَرائِض، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر: 1-3].
أيها المسلمون، حياتُكم عزيزةٌ وأعمارُكم غاليَة ثمينَة، فَالحَذرَ الحذرَ مِن تَضييعِها سُدًى أو تَفوِيتِها في غيرِ هُدى. صَحَّ عن رسولِنا أنه قَالَ: ((لاَ تزول قدَمَا عَبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَل عن أربَع: عن عمرِه فيم أَفناه؟ وعن جِسمِه فيم أَبلاه؟ وعن مالِه مِن أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفَقه؟ وعن عِلمه ماذا عمِل به؟)). يقول الحسنُ البصريّ رحمه الله: "لقد أَدركتُ أقوامًا كانوا أشدَّ حِرصًا على أَوقاتهم من حِرصِكم على دَراهمكم ودنانيركم".
إخوةَ الإسلام، ونحنُ على مَشارفِ إجازةٍ دِراسيّة فإنّه يحسُنُ أن نُذكِّر أنفسَنا بنعمةِ الله ومنَّته علينا وأبناؤُنا وبَناتُنا يعيشون فرحةَ النَّجاح بحَمدِ الله وفضلِه، فلنَكُن حاملين لرسَالتِنا الخالِدَة بتحقِيقِ العبوديّة لله عزّ شأنه، وتطويع النفوس والرَّغبات والشَّهوات للرّزّاق سبحانه، وغَرس القِيَم العالِيَة والأخلاقِ الطَّاهرة في نفوسِنا وواقعِ حَياتنا، ولْنحذَر من حياةِ اللّهو الباطل ومِن حياةِ الذين هم في الرَّذائل غارِقون وللفضائل تاركون.
أيُّها الشبابُ، أَنتم عُنصرُ الأمّة ودليل حيَويَّتها وسبيل نهضَتِها، فمِن الخذلانِ أن تُستَغَلَّ هذه الإجازة في تضييع الأوقاتِ سُدى وإهدارِ اللَّيالي والأيّام في الأمور التّافِهَة والأفعالِ السَّاقطة، فسيِّدُنا ونبيُّنا محَمّد يقول: ((نِعمَتانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ من النَّاس: الصّحّةُ والفَراغ)) رواه البخاري، وابن مَسعود يقول: (مَا نَدِمتُ على شيءٍ نَدَمي على يومٍ غَربَت شمسُه نَقَص فيه أجلي ولم يزدَد فيه عملي).
المسلمُ يغتَنِم وَقتَه في الخَيراتِ ويَعمُرُه بالقُرُبات، فَرَسولنا يَقول: ((اغتَنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: حَيَاتَك قبل موتِك، وصحَّتك قبل سقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وشَبابَك قبل هَرمِك، وغِناك قبلَ فَقرِك)) صحَّحه الحاكم ووافقَه الذهبيّ.
إنَّ هذه الإجازةَ وقتٌ ثمين يجِبُ على الشَّبابِ أن يستغلُّوها فيما يقودُهم إلى علوِّ الهمّة وقوَّة العزيمة؛ في اقتِناص الخيراتِ والمفيدِ من أمور الدّين والدّنيا، وبما يَنفَع أنفسَهم وأمَّتَهم ومجتَمَعاتِهم، وبما يحفَظُ لهم وَسائلَ معاشِهِم وتَدبير شؤونهم؛ حتى تَنالَ الأمّةُ عزَّها ويَعودَ لها مجدُها، وفي سِيَر أسلافِنا عِبَر وعبَرٌ.
أيُّها الطلاب والطّالِبات، في الإجازةِ فرصةٌ عظيمة لتَحقيقِ الأهداف النبِيلة والغاياتِ الطيِّبة دُنيا وأخرى، فاللهَ الله في القرناءِ الصالحين الذين إذا رَأوكَ في قبيحٍ صَدّوك، وإن أبصَروك على جميلٍ أيّدوك وأمدّوك، وليحذرِ الآباءُ والأمّهات أن يجِدوا من هذه الإجازةِ فرصَةً لفتحِ الباب على مِصرَاعَيه لأبنائِهم في تَركِ الواجِبَات وفِعل المحرَّمات أو السّفَر لبلادِ الكفرِ والفجور، وليَحذَر كلُّ مَن استَرعاه الله جلّ وعلا مِن إعانةِ مَن تحتَ رِعَايَتِه في تمهيدِ أسبابِ الانغماس في أوحالِ الضَّلالةِ والأخلاقِ المنحطَّة والسّلوكيّات المنعَوِجَة والتردّي في أوكارِ السّفالة والوقوعِ في مكامِن الإثمِ والبَوار ومَواقِع الفِسق والخَسَار؛ لما ثَبَت في الوَاقعِ خَطرُها وثبَتَ لدَى كلّ غيورٍ شرُّها وضرَرُها بما يدعُو للرّذائل ويُزيِّن الجرائِمَ، فربُّنا جلّ وعلا يخاطِبنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، قال أهل التفسير: "أي: علِّموهم ورَبّوهم وأدّبوهم بما يكون وقايةً لهم من عذابِ الله"، ورسولُنا يقول: ((كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) رواه البخاري.
أيُّها الآباء، احذَروا من الخيانةِ في الأمانةِ بالانسياقِ وراءَ طلباتِ الأبناء دونَ سُؤالٍ عن حلالٍ أو حرام ودونَ رقيب أو حَسيب، وانهَجوا نهجَ نبيِّكم محمّد حينما رسَمَ مَنهجًا واضحًا في عنايتِه بِشبابِ الأمّة حينَما قال لابنِ عمِّه الغُلامِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: ((يَا غُلام، إني أعلِّمك كلمات: احفَظِ الله يحفَظْك، احفَظِ الله تجدْه تجاهَك)). وما أجملَ منهجَ السّلَفِ إذ يقول إبراهيم بن أدهَم رحمه الله: قال لي أبي: يا بنيَّ، اطلب الحديث، فكلما سمعتَ حديثا وحفظتَه فلك دِرهم، قال: فطلبتُ الحديث على هذا.
إخوةَ الإيمان، ولا بأسَ في ديننا من راحةٍ للبدن واستجمامٍ للنفوس في أمورٍ مباحة وسياحَةٍ بريئَة، تدفَع الكلَلَ والملل وتزيل الهمَّ وينفَرِج معها الغمُّ، ولكن حسبَ مَنهجٍ عدلٍ ومسلك وسَط وفقَ قَاعدة: ((القصدَ القصدَ تبلغوا))، مِن غيرِ أن يكونَ اللهوُ غايةً كبرى واللعِبُ والمزاح هدفًا عظيمًا؛ بما يعودُ بالتالي إلى مفاسِدَ كبيرةٍ وشرورٍ عظيمة، وإنما يكون ذلك وفقَ ما يحفَظ الطاقاتِ ويضبط المسالِك، من دون أن يكونَ ذلك جالبًا للعجزِ والكسَل والانتكاس في الدَّعَة والإهمال، وإنما لترويحِ القلوب الواعية والألسنة الذاكرة والجوارح العاملة، وبما يحمِي المرءَ مِن عِلَل البطالة ولوثاتِ الفراغ القاتِل، وعلى أَن يحافِظَ الشبابُ على حُسنِ التنظيم، فلا يطغى غيرُ المهمّ على المهمّ، ولا المهمّ على الأهمّ.
فاحفظوا لحظاتِ العمر، واستغلّوا الوقتَ بما ينفَع في العاجِل والآجل، فالنّفسُ ـ كما قال الشّافعيّ رحمه الله ـ إن لم تَشغَلها بالحقِّ أشغَلَتك بالبَاطِل.
أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ، فاستَغفِروه إنّه هوَ الغفور الرّحيم.
|