أما بعد: فيا عباد الله، تسر العين وينشرح القلب وتطيب النفس عندما نرى ونسمع ذلك البناء العظيم الذي سيبدأ بنيانه وأهله يعدون العدة لإقامته وإتيانه، وكيف لا يكون عظيمًا والمولى سبحانه تفضل به منة وإنعامًا ونبيه وجه إليه وحث عليه صيانة للإنسانية وإكراما؟! به يقطع الشر ويشيع الطهر ويحفظ الفرج ويغض البصر، إنه الزواج، آية من آيات الله، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
عباد الله، في أيام الإجازات تكثر الزيجات ولله الحمد والمنة، لكن حال كثير من الأنام في مثل هذه الأيام يتوجب العظة والذكرى نصحًا وإرشادًا لأولي الأحلام والنهى.
إن فرحة الإنسان وسروره بالأفراح التي تعود على الشباب بالعفاف لا تلبث أن تضمحل أو تزول بالكلية نظرًا لما نشاهده بأعيننا وتصل أخباره إلى أسماعنا وربما صنعته أيدينا وأهلينا من منكرات وخطيئات تعج بها أفراحنا وتمحق بركة أعراسنا، فتعالوا ـ عباد الله ـ نلقي الضوء على بعض المخالفات والمنكرات التي تنغّض على أهل الأفراح أفراحهم وربما قلبت الأفراح إلى أتراح والعياذ بالله، فيقال:
المنكر الأول من منكرات الأفراح: الإسراف والتبذير الذي يحصل في كثير من الأفراح، ولقد تعددت صور الإسراف والتبذير وتنوعت مع تقلب السنين والأعوام، ابتداءً من بطاقات الدعوة والمغالاة فيها شكلاً ومضمونًا وعددًا وطباعة، وانتهاءً بقصور الأفراح والمباهاة فيها، بل تطوّر الأمر ببعضهم إلى إقامة حفلات الزفاف بالفنادق بمبالغ طائلة، وهذا كله يهون أمام الإسراف في المطاعم والمشارب حيث لم يعد يكتفَى وخاصّة عند النساء بطعام الوليمة بل هناك ما قبلها وما بعدها أيضًا من لذائذ الأطعمة والحلويات والمشروبات التي لا يكفيها أحيانًا آلاف الريالات.
عباد الله، لقد غدا الزواج عند الشباب مطلبًا عزيزًا، بل أصبح شبحًا مخيفًا، يهابه ولا يجرؤ على القرب منه، يتمناه ولا يكاد يحصّله، حتى إذا طال عليه الأمد وعبثت به الشهوة ورأى الأقران يستسلمون لهذا الواقع المر واحدًا تلو الآخر عقد العزم على اللحاق بهم والاستمتاع بما أحله الله، فلا يجد مناصًا من الوقوع في الديون الباهظة، ولا محيد عن مسالك الإسراف المفتعلة، يتجرع مرارة الإسراف ولا يكاد يسيغها، ويتحمل مؤونة التبذير دينًا على عاتقه يستمر به سنوات وسنوات، ينغّض عليه عيشه وحياته، ويكره معه الزوجة وأهل الزوجة بل والمجتمع من حوله، حيث كانوا سببًا في إذلاله وإهانته وضياع حاضره ومستقبله.
والسؤال أيها المسلمون: من الذي اضطره إلى ذلك وأجبره عليه؟ من الذي أرغمه على الإسراف ودعاه إليه؟ إنه أنا وأنت والمجتمع بأسره حين جعلنا الزواج مجالاً للمفاخرة وميدانًا للمكاثرة، ثم لا نبالي بعد ذلك بمصير النّعم ولا أين يذهب بها، أفي البطون أم إلى القمامات؟ أأَكلها الناس أم أكلتها السباع والعوافي؟ أوزِّعت على المحتاجين أم على صناديق النفايات؟
عباد الله، إن المصيبة كل المصيبة حين لا يكون الإسراف إلا ممن جرب الفاقة وعايش الحاجة وأصابه الفقر وباء بالمسكنة، قد مسّته البأساء والضراء، ثم لما كثر ماله وحسنت حاله تكبر وتجبر وتطاول وتعاظم، لا يقنع بقليل ولا يملأ عينه كثير، وكأنه تناسى أن المنعِم عليه قادر على إعادته إلى حاله الأولى بين غمضة عين وانتباهتها، إنه على كل شيء قدير.
عباد الله، لقد أمرنا رسولنا بالوليمة للعرسِ فقال عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه: ((أولم ولو بشاة)) أخرجه الشيخان، لكن هل يعني ذلك أن نصل إلى ما وصل إليه الحال اليوم من البذخ والإسراف وضياع الأموال؟! كلا، لقد أخبرنا المولى سبحانه في كتابه عن عاقبة الإسراف وبين حال أهله وما لهم فقال سبحانه: يَا بَنِبي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، وقال سبحانه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27]، وقال : ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة)).
ثم لنتذكر جميعًا ـ أيها المسلمون ـ إخوةً لنا في الإسلام لا يجدون كسرة الخبز ولا شربة الماء، ولتتذكر النساء كذلك أخواتهن المسلمات اللاتي يبحثن في بيوت النمل عن حبّة القمح ليأكلنها. أين أموالنا عن هؤلاء؟! وبماذا سنجيب ربنا عنهم؟! أم أنه يهون علينا أن ننفق الأموال في سبيل المظاهر الكاذبة ومجاراة الآخرين بينما لا يهون أن ننفقها في سبيل الله تعالى.
دبر العيـش بالقليل ليبقى فبقـاء القليـل بالتدبير
لا تبذر وإن ملكت كثيرًا فـزوال الكثير بالتبذير
المنكر الثاني من منكرات الأفراح: إحياء ليلة الزفاف بالغناء الماجن المصاحب لآلات العزف المحرمة، ويستقدم البعض فرقًا غنائية لأجل ذلك، يزعمون أنها إحياء تلك الليلة، وهي في الحقيقة إماتة؛ إذ كيف يمكن أن تحيا الليلة بمعصية الله وبالحرام. إنه والله البلاء والشقاء أن تبدأ أول ليلة في الحياة الزوجية بمعصية الله عز وجل ومخالفة أمر رسوله ، فماذا نتوقع لزواج كانت أول لياليه محاداة لله ولرسوله ؟!
إن تلك الأغنيات تحمل أغلبها الكلمات الماجنة والعبارات الساقطة، بل إنها دعوات مبطّنة للرذيلة وإخلال على رؤوس الأشهاد بالفضيلة، مكبرات الأصوات تَسمع صوتها يخرق الجدران ويدوي في الآذان بكلمات الهوى والحب وما يمليه الشيطان، لقد أقسم ابن مسعود رضي الله عنه بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن لهو الحديث المذكور في قوله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان: 6] أنه الغناء، وقال النبي : ((ليكونون من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) أخرج البخاري. فانظر ـ بارك الله فيك ـ كيف قرن النبي المحرمّات العظيمة الزنا ولبس الحرير على الرجال وشرب الخمر بالمعازف، وبين أنها تُستحَلّ في آخر الزمان كما هو الواقع اليوم والله المستعان، وهذا دليل عظيم على شدة تحريم الغناء وآلات اللهو والمعازف بشتى ألوانها وأشكالها.
عباد الله، إن الذي أباحه الإسلام في الزواج هو الضرب بالدف للنساء فقط مع الغناء المعتاد الحسن الذي ليس فيه دعوة إلى محرم ولا مدح لمحرم ولا مصاحبة لآلات اللهو المحرمة، وذلك مشروط بشروط شرعية أهمها أن يكون بين النساء خاصة، وأن يكون بمعزل عن الرجال، وأن لا تكون أصواتهن عالية، لما في ذلك من الفتنة بصوت المرأة، قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "الغناء في العرس والدف في العرس أمر جائز بل مستحب إذا كان لا يفضي إلى شر، لكن بين النساء خاصة في وقت من الليل، ثم ينتهي بغير سهر أو مكبر صوت، بل بالأغاني المعتادة التي بها مدح للعروس ومدح للزوج بالحق أو أهل العروس أو ما أشبه ذلك من الكلمات التي ليس فيها شر، ويكون بين النساء خاصة ليس معهن أحد من الرجال، ويكون بغير مكبر، هذه لا بأس بها كالعادة المتبعة في عهد النبي وعهد الصحابة، وأما التفاخر بالمطربات وبالأموال الجزيلة للمطربات فهذا منكر لا يجوز، وهكذا بالمكبرات لأنه يحصل به إيذاء للناس" انتهى كلامه رحمه الله.
المنكر الثالث من منكرات الأفراح: التصوير إما التصوير الفوتوغرافي أو الفيديو، حيث يصور الحفل وتصور النساء وهن في أبهى حلة، بل ويحتفظ أهل الحفل بالفلم أو بالصور وفيه صور النساء اللاتي حضرن الحفل والزفاف، وقد تنتقل تلك الصور إلى أرباب الفساد ودعاة الرذيلة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فيستخدمونها في أغراضهم الدنيئة ويستغلونها للتشفي من بعض من يكرهونهم، وقد ينشرونها في مواقع الإنترنت الفاسدة، فما شعورك ـ أيها الأب أو الزوج أو الأخ ـ إذا التقط هؤلاء السفهاء الذين يحملون آلات التصوير صورة لابنتك أو زوجتك أو أمك أو إحدى قريباتك ثم انتشرت تلك الصورة وتلقّفتها الأيدي فأصبحت مثارًا للفتنة والعياذ بالله؟!
عباد الله، كم حصل بهذا المنكر ألا وهو التصوير في الأفراح من فضائح ومفاسد، وكم تهدّمت به من أسر وتفرق به من أزواج، بل كم سفك به من دماء واغتيل به من كرامات، كم ظلم بسببه العديد من النساء المؤمنات الغافلات عما يراد بهن وما يحاك لهن من قبل المفسدين الذين قال الله عنهم: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور: 19].
لا يعجبنك من يصون ثيابه حذر الغبـار وعرضه مبذول
ولربما افتقر الفتَى فرأيتـه دنس الثياب وعرضه مغسول
المنكر الرابع عباد الله: دخول الأزواج واختلاط الرجال والنساء حيث يدخل الزوج على النساء ويجلس بجوار زوجته على ما يسمّى بالمنصّة، فيشاهد النساءَ ويشاهدنه وكلٌّ في أبهى زينته، وفي ذلك من الفتنة ما لا يخفى، حيث يرى الزوج النساء وهن متبرجات متزيّنات، وقد يكون بينهن من هي أفضل وأجمل من زوجته، مما يؤدي إلى ضعف منزلتها في نفسه وتلاعب الشيطان بقلبه وعقله، وكذلك النساء يَرينَ الزوج وهو في أبهى زينَته وجماله، فتقع الفتنة به والعياذ بالله، ناهيكم عما يحدث في بعض قصور الأفراح من دخول المراهقين والمميّزين بحجة صِغَر سنهم وعدم إدراكهم، تقول فاطمة رضي الله عنها: (خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه.
|